مقدمة الخطبة
الحمد لله الخلاق العليم؛ خلق كل شيء فقدره تقديرا، وأحسن ما خلق تصريفا وتدبيرا، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ابتلى الخلق بحمل أمانته ودينه، فمنهم من حفظها، ومنهم من ضيعها، ويوم القيامة يجزيهم بأعمالهم، (ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا).
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
عباد الله؛ إنَّ طلبَ المحبة من الله ﷻ مقصدٌ وغاية لكل عبدٍ خلقه الله ﷻ على وجه هذه الأرض، قال الله ﷻ: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ (الزمر–9).
وهذا أملٌ يرجوه كل راجٍ لله وطامع ٌ برحمته ﷻ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «مَن أحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ أحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ. قالَتْ عائِشَةُ أوْ بَعْضُ أزْواجِهِ: إنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قالَ: ليسَ ذاكِ، ولَكِنَّ المُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ برِضْوانِ اللَّهِ وكَرامَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ؛ فأحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ، وأَحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، وإنَّ الكافِرَ إذا حُضِرَ بُشِّرَ بعَذابِ اللَّهِ وعُقُوبَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أكْرَهَ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ؛ كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ، وكَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ» ← رواه البخاري.
وفي هذا الحديث يخبر النبي ﷺ أنَّ من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه؛ لما يترتب على هذا اللقاء من الجزاء والنعيم، ومحبة اللقاء أن لا يغفل العبد عن الاستعداد لليوم الآخر وطلب ما عند الله ﷻ، وليس الغرض به تمنّي الموت، فالله ﷻ، يقول: ﴿وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ (القصص – 77).
إنَّ رأس مال العبد أنْ يَتحصل على محبة الله ونيلِ رضوانه، وقد حَظِيَ صحابة النبي ﷺ بهذا الوسام العظيم، فعن سهل بن سعد أن رسول الله ﷺ قال يوم خيبر: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ﷺ كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه فأتي به، فبصق في عينيه؛ ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله ﷻ فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» ← رواه البخاري ومسلم.
قال ابن كثير: “قال بعض الحكماء: ليس الشأن أن تُحِبَّ وإنما الشأن أن تُحَبّ”.
والطريق الى المحبة يكون بالالتزام بأوامره ﷻ بأداء الفرائض، والانتهاء عمّا حرّمه من المحرمات، والالتزام بما جاء عن نبينا ﷺ، قال الله ﷻ: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (آل عمران – 31).
قال الحسن رضي الله عنه: قال قومٌ على عهد النبي ﷺ: إنا لنحب ربنا فأمر الله نبيه ﷺ أن يقول لهم: إن كنتم صادقين فيما تقولون فاتبعوني، فإن ذلك علامة صدقكم فيما قلتم”.
وجاء في الحديث القدسي قال ﷺ: فيما يرويه عن ربه ﷻ: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» ← رواه البخاري.
وهذا الالتزام هو طريق الوصول إلى المحبة وليس مجرد ادعاء.
تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ
هَذا مَحالٌ في القِياسِ بَديعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صادِقاً لَأَطَعتَهُ
|إِنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ
في كُلِّ يَومٍ يَبتَديكَ بِنِعمَةٍ
مِنهُ وَأَنتَ لِشُكرِ ذاكَ مُضيعُ
وكمال المحبة يكون بأداء النوافل والمحافظة عليها، قال الله ﷻ: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ (الإسراء – 79)، قال ﷺ: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» ← رواه البخاري.
قال بعض أهل العلم: ” إن الاتيان بالفرائض على الوجه المأمور به امتثال لأمر الله واحترام للأمر وتعظيمه ﷻ بالانقياد إليه وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية، فكان التقرب بذلك أعظم العمل، والذي يؤدي الفرائض قد يفعله خوفاً من القوبة، ومؤدي النفل لا يفعله إلا ايثاراً للخدمة، فيجازى بالمحبة التي هي غاية مطلوب من يُتقرب الى خدمته”.
وليعلم العبد أن باب النوافل واسعٌ جداً، فهو شاملٌ للتنفل بالصلاة والصيام والصدقة والذكر وقراءة القران، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «أَوْصَانِي حَبِيبِي ﷺ بثَلَاثٍ، لَنْ أَدَعَهُنَّ ما عِشْتُ: بصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلَاةِ الضُّحَى، وَبِأَنْ لا أَنَامَ حتَّى أُوتِرَ» ← رواه مسلم.
وعن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال ﷺ: «أفضلُ الصيامِ بعدَ رمضانَ شهرُ اللهِ المحرَّمُ, وأفضلُ الصلاةِ بعدَ الفريضةِ صلاةُ الليلِ» ← أخرجه مسلم، وعن عبد الله بن سلام قال: قال ﷺ: «يا أيُّها النَّاسُ أفشوا السَّلامَ، وأطعِموا الطَّعامَ، وصِلوا الأرحامَ، وصلُّوا باللَّيلِ، والنَّاسُ نيامٌ، تدخلوا الجنَّةَ بسَلامٍ» ← رواه أحمد والترمذي.
وعن أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما من عبدٍ مسلمٍ يصلِّي للهِ ﷻ في كلِّ يومٍ ثِنْتي عشرةَ ركعةً تطوُّعًا غيرَ فريضةٍ إلا بنى اللهُ ﷻ له بيتًا في الجنَّةِ، أو: إلا بُنِيَ له بيتٌ في الجنَّةِ: أربعًا قبلَ الظهرِ، وركعتَين بعدَها، وركعتَين بعد المغربِ، وركعتَين بعد العشاءِ، وركعتَين قبلَ صلاةِ الغَداةِ» ← رواه مسلم.
بل إنَّ كل عمل يُقصد به وجه الله ﷻ يعتبر نافلة يحبها الله ورسوله، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال ﷺ:«تَبَسُّمُك في وَجْه أَخِيك لك صدقة» ← رواه الترمذي.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي ﷺ : «لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْـمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ» ← رواه الترمذي.
إنَّ المواظبة على أداء النوافل والمحافظة عليها يجبر النقص والخلل الحاصل من العبد عند أدائه لفرائضه، فربما يشوب العمل الصالح بعض النقص من سهوٍ وخطأ، وعدم حضور قلب فتأتي النوافل جابرةً لذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال ﷺ: «إنَّ أوَّلَ ما يُحاسبُ به العبدُ يومَ القيامةِ مِن عملِه صلاتُه فإذا صلَحتْ فقد أفلحَ وأنجحَ، وإن فسدَتْ خابَ وخسِر، فإن انتقصَ من فريضتِه شيئًا، قال الرَّبُّ ﷻ: انظروا هل لعبدي من تطوعٍ فيكملُ بها ما انتقصَ من فريضتِه، ثم يكونُ سائرُ عملِه على ذلك» ← رواه الترمذي.
قال ابن رجب الحنبلي: “اختلف الناسُ في معنى تكميل الفرائض من النوافل يومَ القيامة؛ فقالت طائفة: معنى ذلك أنَّ مَن سهَا في صلاتِه عن شيءٍ من فرائضها أو مندوباتها كُمِّل ذلك من نوافله يوم القيامة، وأمَّا مَن ترك شيئًا من فرائضها أو سُننها عمدًا، فإنَّه لا يُكمل له من النوافل؛ وقال أيضًا: –: أنَّ النوافل يُكمل بها نقص الفرائض، فلا يَسلم له شيءٌ من النوافل حتى يُكمل نقص الفرائض؛ ولهذا شبَّهه بالتاجر الذي لا يخلص له ربحٌ حتى يستوفي رأسَ ماله، ويَظهر هذا في المضارِب بمالِ غيرِه.
ولهذا يقول الفقهاء: إنَّ ربحه وقايةٌ لرأس المال.
ومن هنا؛ قال طائفةٌ من السلف – منهم: ابن عباس وأبو أمامة –: إنما النافلة للنبيِّ ﷺ خاصَّة؛ يعنون: أنَّ غيره تُكمل فرائضه بنوافله، فلا يخلص له نافلةٌ، فنوافله جبراناتٌ لفرائضه).
لذا واظب النبي ﷺ وصحابته الكرام على أداء النوافل لما لها من الاجر والثواب العظيم، ولا يسمع بهذا الفضل أحد ويترك النوافل أو يقصر فيها الا محروم.
ومن أراد مرافقة النبي ﷺ في الجنة، فليكثر من سننه: عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: «كنت أبيتُ مع رسول الله ﷺ فأتيتُه بوَضوئِه وحاجته: فقال لي: سلْ، فقلتُ: أسألُك مرافقتَك في الجنة، قال ﷺ: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعنِّي على نفسِك بكثرة السجود» ← رواه مسلم.
وهنا خطبة (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) مكتوبة بالكامِل
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102.
عباد الله: ألا وإن من النوافل التي واظب عليها النبي ﷺ، وطلب منا المحافظة عليها الادعية والأذكار، قال النبي ﷺ: من قال: “سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر”، ومن قال: ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكُتِبَتْ له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي”.
ومن قال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ﴾، ” أيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد، وإن برأ برأ وقد غفر له جميع ذنوبه”.
والحمد لله ربّ العالمين..