مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي خلق النفس فسواها، وألهمها فجورها وتقواها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل النفس اللوامة مفتاح التوبة والرجوع، وأبوابها سبيلًا للخشوع والخضوع.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، خير من لام نفسه وراقب مولاه، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه.
الخطبة الأولى
عباد الله.. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾، الشمس:7-8. عبادَ الله، لقد أوردنا في الأسبوعِ الماضي أنَّ عَدُوَّكَ الألَدَّ هو نفسُك التي بينَ جَنبَيكَ. وقد قال أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه في وَصِيَّتِهِ لِعُمَرَ رضي الله عنهما: (إنَّ أَوَّلَ ما أُحَذِّرُكَ نَفْسُكَ الَّتي بَينَ جَنبَيك.). فمن هو أقربُ صديقٍ إليك في هذه الحياة؟ هل هو الصديق الذي يريد أن تَقضِيَ وَقتَك مَعَهُ بالأعمالِ المشبوهةِ والمحرمة والقيلِ والقال؟ أم هو صديقُك الذي يدلُّك على الخيرِ ويُعِينُك عليه تارة، ولكنه يشغلك أيضاً بالدنيا تارة أخرى؟ في الحقيقة، إنّ أفضلَ صديقٍ عندَك هو الذي يريدُكَ أن تعملَ الخيرَ دائمًا وأن تَقضِيَ وَقتَك مع اللهِ دائماً طاعةً ونعيماً إلى أَبَدِ الآبدين. وهذا الصديقُ هو النَّفسُ اللوامة التي تنهاك عن المنكرِ وتأمرُك بالمعروف.
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ القيامة:1-2، وقد أقسم الله تعالى بالنفس اللوامة لأنها دائمًا تَلومُ صاحبَها على فِعلِ المعصيةِ وتحثه على فِعلِ الخيرِ، أي: إنّها تأمرُ صاحبَها بالمعروف وتنهاهُ عن المنكر. فالنَّفْسُ اللوَّامةُ هي صورةٌ صغيرةٌ داخلَكَ عن يوم القيامة، تُحاسِبُك في الدنيا قَبلَ أنْ تُحاسَبَ في الآخرة، وبالتالي تُنجيك أو تُجَنِّبُك الحسابَ يومَ القيامة. وعلى المسلم أن يَرتَقِبَ في نَفسِه أوامرَها وصوتَها بعدَ أيِّ خاطرٍ يأتيه. ففي الأثر عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: (حاسِبوا أنفسكَم قبلَ أن تُحاسَبوا، وَزِنُوا أعمالَكم قبلَ أنْ تُوزَنوا)، رواه ابن المبارك في الزهد. ويقول الله تعالى: ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرًا يَرَهُۥ … وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُۥ﴾، الزلزلة:7-8.
واعلموا أنّ هذا الأمرَ دقيقٌ، ويَستَمِرُّ مِن أوَّلِ نَفَسٍ بعدَ استيقاظِك من النَّومِ إلى آخِرِ نَفَسٍ قبلَ أنْ تنامَ كُلَّ يومٍ ما دُمتَ حيًّا. فإن الإنسان لا يضمن دخول الجنة حتى يدخلَها بكلتا قدَمَيهِ، كما قال سيِّدُنا أبو بكرٍ رضي الله عنه فيما رُويَ عنه: (لوْ أنَّ إحدى قَدَمَيَّ في الجَنّةِ، والأُخرى خارجَها ما أمِنتُ مَكرَ اللهِ).
معنى هذا أنّه يجبُ على المسلمِ أن يُرَاقِبَ حالَه بِشكلٍ مُستمِرٍّ وأنْ يُحاسِبَ نفسَهُ كُلَّ ليلةٍ على أخطائِهِ في ذلك اليوم، ويستغفرَ الله ويتوبَ من هذه الذنوب. وعليه أن يُخَصِّصَ وقتًا لذلك. فاحذروا لأن الله تعالى يقول: ﴿مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، ق:18. واعلموا أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ» رواه البخاري.
وتُعينُ النَّفْسَ اللوامةَ على عَمَلِها خَصلَةٌ في فِطرةِ الإنسان، وهي الحَياءُ. قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ»، رواه البخاري. فحافظْوا على الحياءِ مع اللهِ ومع النّاسِ في جميعِ أمورِكم، وأطِيعوا أنفسَكم اللوَّامةَ باجتنابِ المعاصي، وافعلوا الخيرِ لِتَنجَوا من النار. يقول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ النازعات:40-41. وقد سُئلَ رسولُ الله ﷺ ما خيرُ ما أُعطيَ العبدُ، فقال ﷺ: (خُلُقٌ حَسَنٌ)، رواه أبو داود.
أما هذه؛ فهي ⇐ خطبة عن النفس الأمارة بالسوء
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من أصحاب النفس اللوامة، تلك التي تلوم صاحبها على الزلل، وتدعوه إلى الصلاح والعمل. اجعلوا اللوم على الخطأ جسرًا للتوبة، وسبيلاً للتقرب من علام الغيوب، ولا تتركوا الغفلة تغلب النفس حتى تقع في درك المحذور.
واعلموا أن النفس اللوامة هي نور في القلب، وصوت ينبه الغافل من غفلته، فمن أطاعها بلغ الفوز والرضوان، ومن أعرض عنها خسر في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾، قسم عظيم يبيّن فضلها وشأنها في الصلاح والاستقامة.
اللهم اجعل نفوسنا لوامة، تائبـة، خاشعة، قريبة منك، وأعنّا على تهذيبها بما يرضيك، ونسألك يا كريم أن تغفر لنا خطايانا، وتستر عيوبنا، وتلهمنا رشدنا. هذا وصلوا وسلموا على من بعثه الله هاديًا للأمم، وداعيًا إلى مكارم الأخلاق والقيم، كما أمركم ربكم في محكم التنزيل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، واغفر لنا وللمسلمين أجمعين، ووفقنا لما تحب وترضى يا أكرم الأكرمين.