عناصر الخطبة
- تنمية الوازع الديني لتعزيز النزاهة والأمانة، وبيان ما ورد في كتاب الله ﷻ وسُنَّة نبيه ﷺ من حث على ذلك.
- التوعية بالمسؤولية المجتمعية في المحافظة على المال العام، وعدم الاعتداء عليه.
- بيان اهتمام الدولة في المحافظة على المال العام، والحث على الإبلاغ عن جرائم الفساد ومرتكبيها.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﷺ الصادق الأمين.
يقول الله ﷻ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾.
الخطبة الأولى
أما بعد فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحة عن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: استعمل رسول الله ﷺ رجلا على الصدقة –يعني وظفه وأمره بحفظ أموال الصدقة والزكاة– فقَدِم هذا الرجل على النبي ﷺ –يعني بمالٍ كثير– وقال للنبي ﷺ: هذا لكم وهذا أُهديَ إلي. فغضب النبي ﷺ، فصعد المنبر، فخطب الناس، فكان مما قال ﷺ «أيها الناس؛ ما بال الرجل استعملناه على عمل فجاء فقال: هذا لكم وهذا أُهدي إليّ، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه، فيرى أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمدٍ بيده لا يأخذ أحدٌ منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته».
النبي ﷺ يحثنا على النزاهة والأمانة والحفاظ على المال العام ويبين لنا حُرمته، وأنه أشد جُرما وأعظم حرمة عند الله –تبارك وتعالى– من المال الخاص. العبدُ إذا أخذ مالا خاصا لأحد الناس؛ إنما تتعلق المظلمة بواحدٍ من أُمَّة النبي ﷺ، وأما المال العام فتتعلق به ذِمم الناس أجمعين.
الرجل جاء بمال المسلمين فأدَّاه كاملا لرسول الله، ولم يجحد منه ذرَّة ولم يأخذ منه شيئا، ولكن في أثناء عمله كان يُهْدَى إليه، فغضب النبي ﷺ من صنيع الرَّجل، وبيَّن أن المال الذي أُهدي إليه، لم يهدى له محبة له، ولم يهدى له لمكانته ووجاهته، وإنما أُهدي إليه لأمر ما، مما يضيع على المسلمين أموالهم وحقوقهم. فقال «لو أن هذا الرجل جلس في بيت أبيه وبيت أمه –ولم يكن موظفا في هذا المكان، ولم يكن مسئولا في هذا الموضع خاصة؛ أفكان يهدى إليه– فينظر أيُهدى إليه أم لا؟».
كما بين النبي ﷺ، ثم بين أن من أخذ شيئا من أموال الناس العامة؛ كبيرا كان أو صغيرا، عظيما كان أو حقيرا، فإنه يأتي به يوم القيامة يوم العرض على الله تعالى يحمله على رقبته بين يدي الله رب العالمين. إن أخذ بعيرا جاء يحمله على رقبته، إن أخذ بقرة جاء يحملها على رقبته، إن أخذ شاةً جاء بها يحملها على رقبته يوم العرض على الله رب العالمين.
ثم رفع النبي ﷺ يديه إلى السماء يقول «اللهم ألا قد بلغت اللهم فاشهد» قال ذلك ثلاثا صلى الله وسلم وبارك عليه.
إن كثيرا من الناس، يستحلون أو يستهينون بالأموال العامة، فيقول بعضهم: نحن لسنا بأغنى من الدولة، وهذه الأموال هي حلال لنا، وأن كثيرا من الناس يفعلون ذلك، وأنها أصبح كلأ مُستباحا، من استطاع أن يأخذ شيئا فليفعل، ولا إثم عليه ولا ذنب ولا خطيئة.. مع أن هذا من أعظم المحرمات عند الله –تبارك وتعالى–.
يقول النبي ﷺ «من استعملناه منكم على عملٍ، فكتمنا مخيطا فما فوقه»، أتدرون يا عباد الله ما المخيط؟ المخيط يعني الإبرة، إبرة الخياطة، «فكتمنا مخيطا» كتمنا هذا الشيء، الذي لا يذكر، الذي لا وزن له ولا قدر ولا قيمة، الذي لا يثمن ولا يغني من جوع، الذي لا يقدم ولا يؤخر ولا يرفع ولا يخفض، ولكنه المسلمين «فهو غلول يأتي به يوم القيامة» كما أخبر النبي صلى الله وسلم وبارك عليه.
يأتي به؛ نعم.
ومصداق ذلك في قول الله –تبارك وتعالى–، ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ والغلول هو أخذ المال العام، أو أخذ المال التي تعلقت به ذمم الناس أجمعين. وأصله أن يأخذ العبد من الغنائم قبل أن تُوزَّع على الناس، فمن أخذ من أموال الناس العامة فهو غلول كما قال النبي ﷺ، يأتي به العبد يوم القيامة كما أخبر صلوات الله عليه.
الغلول –يا عباد الله– وما أدراكم ما الغلول، يُضيّع العبد، يُذهِب بحسناته، حتى ولو كانت من أعظم الأعمال وأجلّها عند الله. ففي غزوة خيبر، قال أبو هريرة –رضي الله تعالى عنه–: لم نغنم فيها ذهبا ولا فضة، وإنما غنمنا الإبل والبقر والمتاع، وكان هناك غلام لرسول الله ﷺ –يعني يلازمه ويصاحبه ويقوم على شأنه وخدمته صلوات الله وسلامه عليه؛ وهذا فيه شرف عظيم، أن يكون العبد في خدمة رسول الله، وأن يلازم رسول الله، وأن يكون في صحبته في حِلّه وترحاله– فبينما هو يحط رحلا لرسول الله، جاءه سهمٌ فقتله، فوقع شهيدا –رضي الله تعالى عنه في ظاهر الأمر– فقال الناس أجمعين: هنيئا له الشهادة. –وقع شهيدا، كان مصاحبا لرسول الله، وكان ملازما له، وكان في خدمته ويقوم على شأنه– قالوا: هنيئا له الشهادة. قال النبي ﷺ «والذي نفس محمد بيده، إن الشَّملة التي غلَّها لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارًا» كما أخبر النبي ﷺ.
والشملة كما قال العلماء هي التلفيعة، التي نقول عنها التلفيحة أو قالوا هي العباءة التي يلف بها العبد بدنه، لأنها تشتمل على الجسد.
غَلَّ شملة، فقال عنها النبي ﷺ «أنها لتشتعل عليه نارا»، فلما قال ذلك ﷺ جاء رجل بشِراكٍ أو بشراكين، والشراك هو سير النعل الذي يكون على ظاهر القدم من الأعلى.. جاء رجل بشراك أو بشراك للنبي ﷺ، فقال ﷺ: «شراكٌ من نار!» هذا شيء يسير هين، لا وزن له ولا قيمة، ومع ذلك أحبط عمل الرجل الذي وقع شهيدا وكان في خدمة النبي صلى الله وسلم وبارك عليه.
ألا أن النبي ﷺ قد أخبرنا عن زمانٍ يأتي على الناس، لا يبالي العبد فيه ما أخذ ، أمِن الحلال أم من الحرام. «إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة» أيستعملون مال المسلمين في غير ما أحل الله وفي غير ما أباح الله –عز وجل–؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله الحليم العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين؛ فاستغفروه.
⇐ هذه المباركة مقترحة أيضًا: خطبة عن النزاهة ومحاربة الفساد وأهمية المحافظة على المال العام وعدم الاعتداء عليه
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
المال العام يا عباد الله، الكهرباء مال عام، فمن كان يسرقها فهو سارقٌ للأموال العامة. المياه مال عام، من كان يسرقها فهو سارق لأموال الناس العامة. وسائل النقل والمواصلات، من أخذ منها شيئا لنفسه، فهو سارِقٌ لأموال الناس العامة. الذي يستخدم هاتف المصلحة التي يعمل فيها لمصلحة نفسه للاطمئنان على زوجته وأولاده، لمكالماته الخاصة؛ إنما يستعمل المال لنفسه. الذي يأخذ الأقلام والأوراق من مصلحته لأولاده ولنفسه، إنما يأخذ أموال الناس العامة.
المستشفيات، المدارس، المعاهد، الجامعات، وسائل النقل، المياه، الكهرباء.. كل هذا من الأموال العامة التي لا حُرمة لها ولا قيمة عند كثير من الناس، وإنما هي كلأٌ مستباح، يأخذ العبد ما يشاء، وما دام أنه لم يراك أحد ولم يعلم بك أحد فاصنع ما شِئت، أين الله يا عباد الله؟ أين الله يا عباد الله؟
«من استعملناه فكتمنا مخيطا»، يقول النبي «من كتمنا مخيطا فهو غلول، يأتي به يحمله يوم العرض على الله تبارك وتعالى».
ألا إن ينبغي عليه وجوبا ألا يُدخِل على أولاده، ولا على نفسه إلا حلالا طيبا، فكل جسدٍ نبت من حرام أو من سُحتٍ فالنار أولى به، كما قال النبي صلى الله وسلم وبارك عليه.
على العبد أن يتقي الله رب العالمين في نفسه، وألا يُطعِم أهله إلا حلالا طيبا، فإن العبد الذي كان يطيل السفر أشعث أغبر، يمد إلى السماء يا رب يا رب، يُلحّ على ربه.. ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك؟ كما أخبر النبي صلى الله وسلم وبارك عليه.
لأن يعيش العبد فقيرا على الكفاف، أحب إلى الله رب العالمين، من أن يدخل على أمواله درهما واحدا من حرام.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يرزقنا رزقا كثيرا حلالا، حلالا طيبًا، وأن يبارك لنا فيه، وأن يغنينا جميعا من فضله العظيم، وأن يباعد بيننا وبين الحرام، كما باعد بين المشرِق والمغرب، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، هو مولانا فنعم المولى ونعم النصير.