مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي أمر بالنزاهة وحض عليها، وحث على الأمانة وكل مؤد إليها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أكثر الناس امتثالا لما أوصى به الله وأمر، وأبعدهم عما حذر منه ونفر، ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله تقوى من أخلص له ورجا جنته، واعبدوه عبادة من خافه، فاجتنب معصيته ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
الخطبة الأولى
أيها المسلمون: اعلموا -هداكم الله لأحسن الفضائل- أن من خير ما يحرص عليه العقلاء، ويتسابق في ميدانه المسلمون الحكماء، الإخلاص في العمل ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، كيف لا وهو سبيل التعفف عن كل ما يشين، وسبيل أولياء الله المتقين، إنه سبيل النزاهة الشريف، الراقي بسالكيه إلى أحسن العواقب وأجملها، وأقربها إلى الله وأفضلها.
النزاهة -يا عباد الله- خلق قويم، سالك بالمرء صراط الله المستقيم، وقد قيل في معنى النزاهة: “البعد عن السوء، وفلان يتنزه عن بعض الأخلاق، أي: يترفع عما يذم منها”، فالنزاهة إذن: امتثال لمعاني الخلق القويم؛ كالأمانة، والصدق، والتعفف عن المال الحرام، وأداء الواجب كما ينبغي.
وكل ما افترضه الله على عباده هو أمانة واجبة الأداء، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ولم تكن السنة المطهرة بمنأى عن التطرق إلى فحوى النزاهة، فقد قال من أوتي جوامع الكلم حديثا موجزا -لو عمل الإنسان به لأراح واستراح- قال ﷺ: «خذوا ما حل، ودعوا ما حرم».
وإذا تتبعنا النزاهة يا عباد الله في الجانب الإداري وجدنا أنها اتباع الأسس والقواعد الأخلاقية التي تبعدنا عن سوء استخدام الإدارة والوظيفة وتجنبنا الفساد الإداري، من أجل سلامة مؤسساتنا وجودة أدائها الفردي والمؤسسي.
أيها المؤمنون: إن من صور النزاهة التي ينبغي أن يستحضرها المسلم العفة بأنواعها، فهو نزيه في تجارته، لا يأكل حراما ولا يغش: «من غشنا فليس منا»، وهو أمين في وظيفته، مؤد لها بإخلاص، لا يقبل الرشوة: «لعن رسول الله ﷺ الراشي والمرتشي»، ولا يأخذ أي شيء من أحد بغير وجه حق، قال ﷺ: «ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي! أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا».
والمسلم أمين في أي عمل يقوم به، أمين في تربية أولاده: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، وأمين في تعامله مع الناس، صادق في كل أحواله، حسن الخلق في علاقاته مع الصغير والكبير، ومع الغني والفقير؛ فقد جاء عنه ﷺ: «إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا»، وهل حسن الخلق إلا الأمانة والعفة والنزاهة والورع!
إن رسوخ خوف الله في القلوب، والسعي إلى ابتغاء رضاه يبني مسلما شعاره الإخلاص، وهديه الورع، وقائده التنفيذ الأمين ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَنْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾، ويجعل الفرد في راحة نفسية، وطمأنينة واستقرار؛ فهو آمن من أن يناله غيره بظلم، أو يأتيه من أحد تعد في جانب مالي أو بدني، فتنشأ العلاقات القوية، والصلات المتبادلة بين أفراد المجتمع، هذا يحرص على مال أخيه، وذاك يرعى ملك غيره، وآخر يسعى في نفع المحتاج، يثق كل واحد بالآخر، ويتعامل معه دون خوف أو توجس، هكذا نبني مجتمعا يسوده حب الخير للآخرين، جاعلا شعاره ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، في كل وقت وحين.
فاتقوا الله في مجتمعكم، وعلاقاتكم، وتجارتكم، ووظيفتكم، كونوا الساعد المتين لهذا الوطن الأمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
هذه أيضًا ⇐ خطبة: الحث على النزاهة والأمانة والحفاظ على المال العام
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل النزاهة أساس رقي المجتمعات، والأمانة شعار الطالبين لرفعة الدرجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أكثر الناس حرصا على التنمية، وأحسنهم عناية بما فيه عزة للمجتمعات وترقية، ﷺ وعلى آله وأصحابه الطيبين، ومن سلك مسلكهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله: لم يكن أثر النزاهة يوما مقتصرا على وقت، بل هو ممتد إلى ما شاء الله، فما يصنعه المرء اليوم يجني ثماره غدا؛ إذ النزاهة خير بناء للمستقبل، وذلك أن الصلاح أمر تراكمي، وأن عملية البناء تكون لبنة فوق لبنة، فمن يرد أن يكون له غد نزيه آمن، وبلد مستقر مطمئن فليعد العدة من الآن بناء وتنمية، غرسا وسقيا، متابعة وإصلاحا، فإن هو أخذ بالأسباب جاءت المكرمات من رب الأرض والسماوات ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾، وبهذا نصل إلى تنمية مستدامة تهتم بالحاضر وتبني المستقبل.
ولنعلم -أيها المسلمون- أن تعويد الناس -أفرادا ومجتمعات، صغارا وكبارا، ذكورا وإناثا- التورع بأنواعه ينشئ جيلا يخشى الله حق خشيته، ويعرف حسن المعاملة حق معرفته، ويعطي العمل وقته، والإنتاج أهميته: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن أمانة المرء دليل إيمانه، وإخلاصه في عمله أمارة اهتمامه.
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَيْكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.