كيف كان يقضي النبي ﷺ رمضان؟ هذا هو عنوان خطبة الجمعة لهذا الأسبوع، والتي أعددناها لكم ونسَّقناها، ووفَّرناها لكم مكتوبة، بكل ما جاء فيها من عِظات عظيمة وإرشاد بليغ.
مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي بعث رسوله محمدا ﷺ بالهدى والبينات، فأوضح معالم الدين وبين السبل والغايات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رفيع الدرجات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، مبلغ السنن والآيات، ﷺ وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات.
الخطبة الأُولى
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله ﷻ، واعلموا أنكم في شهر عظيم، له روحانيته الخاصة التي ينتشي عبيرها كل متعبد لله رب العالمين، كيف لا! وهو شهر الصبر، وشهر إنزال الذكر، وشهر تضيق الأرض بكثرة الملائكة النازلين في ليلة زاهرة من لياليه المباركة، ألا وهي ليلة القدر، فلا غرو أن يتنافس العباد في الاجتهاد فيه تعبدا وتذللا بين يدي الرحمن الرحيم.
أيها المسلمون: إن في مقدمة العباد المتبتلين رسول رب العالمين، صلوات ربي وسلامه عليه، فهو في رمضان يجتهد في العبادة اجتهادا منقطع النظير، وهو في كل زمان من حياته ﷺ أعظم الناس لله خشية، وأكثرهم له ذكرا، وأسبقهم إلى كل عمل صالح، فما بالكم به في رمضان! تقول السيدة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله ﷺ يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيته استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان“.
فمهما سمعت عن المكثرين لذكر الله ﷻ فنبينا ﷺ في الذكر أكثرهم، ومهما سمعت عن التالين لكتاب الله بالختمات المتعددة فهو أقرؤهم، ومهما سمعت عن المكثرين للسجود في محراب الصلاة فهو إمامهم، ومهما سمعت عن المشتغلين بالصوم فهو أحسنهم طريقة وأتقنهم، ومهما سمعت عن المتحفظين عما يخدش الصوم فهو المعلم لهم، وقد قال ﷺ: «إنما أنا لكم مثل الوالد، أعلمكم أمر دينكم»، يقول ربنا ﷻ في الثناء عليه: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾.
معاشر المؤمنين: لقد صام نبينا ﷺ في حياته شهور رمضان، شهد في بعضها معارك وغزوات؛ كمعركة بدر الكبرى في السنة الثانية، وهي السنة التي شرع فيها صيام شهر رمضان الفضيل، وشهد فتح أم القرى في السنة الثامنة، أي في سابع رمضان يصومه ﷺ، وقد سمع جابر جملة من أصحاب النبي ﷺ يقولون: “خرجنا مع رسول الله ﷺ عام الفتح في رمضان، فأمر الناس أن يفطروا؛ قال: ” تقوية على عدوكم “، فصام هو ولم يفطر. قالوا: ولقد رأينا رسول الله ﷺ يصب الماء على رأسه من شدة الحر أو من العطش، فقيل له: يا رسول الله، إن ناسا صاموا حين صمت، فلما بلغ ” الكديد ” دعا بقدح من ماء فشرب، فأفطر الناس معه”.
أيها المتقربون إلى الله: إن الرجل ليدرك بمحامد الأخلاق منزلة الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر، وهذا ما كان يتميز به نبينا العظيم عليه أفضل الصلاة والتسليم، ولذلك أوصى ﷺ الصائم بمراعاة الأخلاق العالية في قوله: «فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم».
وكان ﷺ حال صومه رمضان يجود بالعطاء والصدقات حتى ينعته الناعت بالريح المرسلة، يقول الصحابي عبد الله بن عباس رضي الله عنه: “كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة”.
أيها الراغبون في ثواب الله: حياته ﷺ في ظلال رمضان جد في طاعة الله، وسعي إلى اغتنام ساعات ليله ونهاره، فهو فيه أشد تعبدا لله مما سواه من الأزمان، وهو في العشر الأواخر منه أكثر اجتهادا منه في غيرها، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: “كان النبي ﷺ إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله“، فهو ﷺ يحب أن يشاركه في ثواب العمل الصالح أهله، فيحثهم على قيام الليل، ويرغبهم فيما يشتغل به من طاعة الله.
فكن أيها المقتدي به على منواله في حث أهلك وولدك وإخوانك وأقاربك على الطاعة، والتقرب إلى الله ﷻ بصنوف العبادة ليكونوا رفقاءك في جنات النعيم، ويصدق فيكم قول رب العالمين: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لّا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾.
فاتقوا الله –يا عباد الله–، وسارعوا إلى ما يرضي الله، واغتنموا الزمان الذي أنتم فيه قبل انتقالكم عنه، فالسعيد الموفق من ملأ زمانه بالطاعات، وجميل القربات، والمحروم من فاته ذلك، وأنى يدرك ما فات بعد الفوات!
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله الأمين، ﷺ وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد، فيا عباد الله: لكل منا برنامجه الخاص في قضاء هذا الشهر الفضيل، وخصوصا العشر الأواخر منه، فأعد أيها الحريص على طاعة الله خطتك للعبادة فيما تبقى من رمضان، وليكن لك نصيب من قوله ﷻ: ﴿وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾، فرسولنا الكريم يقول: «من كان اعتكف معي، فليعتكف العشر الأواخر، وقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر».
وذلك لأن الله يقول في ليلة القدر: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، فنبه أهلك وولدك لقيام الليل، وللتلاوة والذكر والاستغفار ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾.
فاتقوا الله –يا عباد الله–، وأكثروا في خلواتكم من دعاء الله ﷻ والتضرع إليه رغبة ورهبة، فأنتم في شهر الإجابة؛ يقول عز من قائل في وسط آيات الصيام: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.