تم تحديد خطبة الجمعة القادمة بواسطة وزارة الأوقاف، بتاريخ الثلاثون من شهر أكتوبر من عام ألفين وعشرين بعنوان: النبي القدوة معلماً ومربياً.
خطبة الجمعة القادمة
نحمد الله تعالي ونستعين به ونستغفره، ونعوذ به عز وجل من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، خلق كل شيء بقدر، وخلق الجان والملائكة والبشر، وأوحى للخلق أن يوحدوه وأن يخلصوا له العبادة ويؤمنوا به ويدعوه، ومن فضله يسألوه، ووعد السائلين بالجواب والكرم، وأسعد الواقفين ببابه بالعزة والنصر والتأييد أعز أولياؤه وأزل أعدائه.
وكان لطيفا بخلقه رحيماً بهم إذ بعث فيهم رسولاً منهم، حمل الأمانة وبلغ الرسالة، وهدى الله به الأمة وكشف على يديه الغمة، وترك لنا ما فيه نجاتنا وصلاح حالنا في عاجل أمرنا وآخرتنا.
ونصلي ونسلم ونبارك عليه عدد ما سبحت الخلائق في الأرض والسماء، وعدد ما رقت لذكره قلوب الصالحين والمحبين والأتقياء، وعدد ما تعاقب الليل والنهار، وعدد ما تبادل الصيف والشتاء، وعلى أصحابه المخلصين والأنقياء، وعلى من تبعهم بإيمان إلى يوم يبعثون، ثم أما بعد:
فإننا في يوم مبارك وفي بقعة طيبة مباركةـ أما يومنا فهو يوم جمعة واجتماعنا في أطهر البقاع وأطيبها وهي بيوت الله عز وجل، وحديثنا عن أكرم الخلق وأرقاهم وأنقاهم وأشرفهم وأعلاهم قدراً وأدناهم من الله نزلاً، عن الحبيب المصطفي يدور حديثنا، وفي فلك فضائله ومكارم أخلاقه، وعظيم تربيته تكون جولتنا.
النبي القدوة
لا شك أننا في هذه الحياة بكل ما فيها من الكبد والعنت والصراعات والاختلافات نواجه بحراً متلاطماً مزدحما بالمعايير الحديثة والقديمة، الصحيحة والعقيمة، والخاطئة والصائبة في شتى أمورنا وسائر جوانب حياتنا، ولأن كل المعايير وكل النماذج التي نراها ونتلمس طريقنا مستضيئين بها هم في النهاية بشر، مهما بلغو من العلم والمكانة والمعرفة فبشريتهم تنفي عنهم الكمال، فجميعهم قابل للخطأ وجميعه قابل للأخذ منه والرد عليه، وكل منهم نموذج به نقص لا تخلو منه شخصيته.
لذا لا يصلح الاقتداء بأي إنسان مهما كان ولا يصلح اتباعه في كل ما يقوم به ويفعله، لأنه قد يصيب وقد يخطئ وقد يتفوق في جانب ويخفق في آخر، وقد يتصف ببعض المحامد ولا يخلو مما يدعو إلى الذم، فالكمال المطلق لله وحده، والكمال البشري والعصمة لا تتجسد في أي من الخَلق باستثناء الرسول ﷺ وحبيبه ومصطفاه.
لأجل ذلك وأكثر فإنه لا أحد في هذه الدنيا أهل لأن يقتدى به، ويهتدى بهديه، ويسار على نهجه وطريقته إلا نبينا محمد فهو صاحب الخلق العظيم، والمنطق القويم، والأصل الكريم، العلم الغزير من لدن رب عليم حكيم، وقد نسب الله عز وجل في كتابه الحكيم كل تلك الأوصاف ونعته بأفضل النعوت، فوصف خلقه ﷺ في محكم التنزيل قائلا: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم، وقد صدقت الصديقة بنت الصديق على هذا الوصف القرآني المشرف لشخص النبي ﷺ فقالت حين سئلت عن خلقه: (كان خلقه القرآن) فما أعظم خلق القرآن.
أما عن منطقه القويم المنزه عن اللهو والخطأ والهوى فقد قال عنه الله عز وجل: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ)، ولأنه خير من يقتدى به، فقد أقر القرآن هذا الأمر كحقيقة واقعة فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
فمن أراد خير الدنيا وخير الآخرة، ورغب في صلاح حاله ومئاله، وطمح إلى مجامع الخلق ومحاسن السجايا، ومواطن الحكمة فليلتمسها في سيرة حبيبه ونبيه وقدوته محمد ﷺ ومن راقه أن ينال منه التخبط والحيرة والضلال، ويتوه بين طبائع البشر ومعايير الصلاح والفلاح التي لا يتفقون عليها، ومبادئ الخير التي تتعدد طرقها فيمكنه أن يفني الكثير من وقته وعمره في البحث عمن يصلح نبراسا وقدوة له ليهتدي به ويسير على دربه.
النبي خير المعلمين وأفضل المربين
كان النبي ﷺ معلما محنكاً وخبيرا تربوياً يفوق علمه وذكائه كل خبير، كان يعتني بتعليم الكبير والصغير على حد سواء، وكان ﷺ يحرص على غرس قيم الخيرية والصدق والأمانة والإخلاص والرقي، وكان ينشيء أصحابه وأحبابه على قيم الشجاعة وحب الله ورسوله والعمل على مرضاته، كان عليه الصلاة والسلام بحق مصنعا للرجال والأبطال، لذلك استطاعوا أن يخلدوا أسمائهم ويحفرو ا انجازاتهم رغم حداثة أعمار بعضهم، ورغم قصر أعمار بعضهم الآخر بحروف من نور واضحة كوضوح الشمس في عليائها، مشرقة مضيئة باقية ما بقيت الدنيا.
لماذا النبي ﷺ أصلح الخلق للاقتداء والاهتداء؟
بعض الخلق يجمع الكثير من محاسن الخلق، ويدعون إلى فضائلها، ولكنه ﷺ اختصه الله بأدوات الدعوة ومهاراتها، وجمع عليه قلوب المؤمنين والأنقياء والصالحين، بل نال كذلك ثناء الفجار من الكفار والمعاندين الذين كانوا يعلمون صدق دعوته وقوة حجته، ولكن أبى كبرياؤهم إلا العصيان والتمرد يقول جل وعلا: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)، فقد شهد له أعداء دعوته بالصدق والأمانة، والكرم والشواهد على ذلك كثيرة، ومن ثم فقد امتلك النبي ﷺ مهارة التأثير وحسن التوصيل، ومثالية التوجيه والتصحيح والتعليم، وذلك من عدة وجوه لعل أهمها ما يلي:
كان النبي ﷺ نموذجا حيا لكل م يدعو إليه ويحث عليه، لا يخالف مقاله أفعاله، ولا يثير حيرة من يراه أو يتتبع سيرته ومواقفه، ولا يفعل ما ينهى عنه، ولا يقترب من أمر نفر الناس منه، ولعل من المواقف التي تذل على ذلك والتي لا تحصى ولا تعد، أنه حين قام يحض أحابه ويحفزهم على العمل ويحثهم على النشاط والبذل في سبيل الله، في حفر الخندق في غزوة الخندق الشهيرة، لم يقف منهم موقف القائد أو المشرف أو الموجه (وهو أهل لكل ذلك)، بل شارك معهم في العمل الشاق المرهق، فكان لذلك عظيم الأثر والتحفيز الكبير جدا لكل المجاهدين من المسلمين، مما قوى عزائمهم وضاعف قوتهم، وفي ذلك الموقف وغيره يتجسد معنى القدوة العملية الأكثر مصداقية والأشد وقعا في نفوس الباحثين عن القدوة.
كذلك كان يدعو ﷺ للعطاء والكرم وكان مثالا حيا للعطاء في أروع صوره والكرم في ذروة حالاته، وقد شهدت له السنة النبوية والسيرة العطرة بذلك، ومن ذلك حديث عبدالله ابن عباس “رضي الله عنه” وأرضاه إذ يقول: “كان رسول الله ﷺ أجودَ الناس، كان أجودُ ما يكونُ في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريلُ يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيُدارسه القرآن، فلَرسولُ الله ﷺ حين يلقاه جبريلُ أجودُ بالخير مِن الريحِ المُرسَلة”؛ متفق عليه
كان ﷺ يدعوا للرفق وينهى عن العنف، وكان هو قلباً رفيقا رحيما لينا يمشي على الأرض، لم ينهر زوجة ولا خادما ولا حتى حيوانا، وقد شهد له أنس بن مالك الذي خدمه لعشرة أعوام كاملة أنه لم ينهره ولم يعاتبه، بل لم يعاتبه في أمر عمله لم عمله، ولا أمر تركه لم تركه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، الصادق المصدوق الدال على الخير، البشير النذير، وعلى من رافقه رحلته وآزره في دعوته، وصدقه وآمن بملته، من أزواجه وأل بيته وصحه، والتابعين وتابعي التابعين بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأنعم برسول الله خير معلم ومرشد وهاد، وخير من يحتذى به ويستضاء بنوره في ظلمات الحياة والممات، ولعل من كمال صلاحه ﷺ للاقتداء والاحتذاء حرصه البالغ على القيام بدور الموجه والمعلم، فكم ساقت لنا السنة النبوية من الأخبار والمواقف مما يدل على حرصه الدائم وانتباهه المستمر”عليه الصلاة والسلام” على تقويم سلوك أصحابه والاهتمام بتعليم الصبية والصغار آداب الطاعم وآداب الملبس، وآداب التعامل مع الناس، ولعلنا نسوق مثالاً واحدا أو اثنين يبرز فيهما حرص النبي على توجيه الصبية وتعليمهم منذ البداية ووضع خطوط عريضة وقيم واضحة لما ينبغي أن يكون عليه المسلم، من حسن السمت والخلق.
فنراه ﷺ يعلم أسماء بنت ابي بكر “رضي الله عنها وعن أبيها”، ضوابط الزي الإسلامي للمرأة المسلمة التي بلغت سن التكليف، وقد اتضح ذلك الحرص من حديث عائشة “رضي الله عنها”: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله ﷺ وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله ﷺ، وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا” وأشار إلى وجهه وكفيه.
ونلمسه أيضا في موقف آخر حين يجمعه الطعام بصبية صغار، فيعلمهم آدابه ويحثهم على اتباعها ويعلمهم ما يليق بأعمارهم في تلك المرحلة العمية المبكرة، علما أن غراس الطفولة والصبا هو ما يبقى للمرء في شبابه وبعد نضجه، ومن ذلك حديث عُمَرَ بنِ أَبي سلَمَة “رضي اللَّه عنهما” قَالَ: قَالَ لي رسولُ اللَّه ﷺ: سَمِّ اللَّه، وكُلْ بِيَمِينكَ، وكُلْ مِمَّا يَلِيكَ متفقٌ عَلَيهِ.
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- رحيمًا بالصغار، وحسن التعامل معهم.
كذلك نلمسه في توجيهات تربوية ونفسية وسلوكية أكثر عمقا وأبقى أثرا، وأكثر أهمية للمسلم، وينبغي عليه أن يأخذ بها ويحاول جاهدا اتيان ما استطاع منها، ومن ذلك تعليم الصبيان من المسلمين بعض الكلمات التي تحصنه وتقيه شر نفسه وشر الشيطان، وتقيه موارد الهلاك وتصلح عقيدته، وتورثه السلام النفسي والرضا وراحة البال، ومن ذلك حديث ابْنِ عَبَّاسٍ “رضي الله عنه” الذي يقول فيه: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” يَوْمًا فَقَالَ: ( يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، واحْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّه،َ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ).
صدق رسول الله ﷺ وأصاب المرشد العظيم والمربي والمعلم، فوالله لو اقتدينا به، والتزمنا منهجه لرأينا من السعادة العجب العجاب، في الدنيا والآخرة.
نسأل الله عز وجل أن يهد قلوبنا ويستر عيوبنا، ويشرح بالإيمان صدورنا، انه ولينا ونعم الوكيل.