عناصر الخطبة
- ذكرى المولد النبوي الشريف مناسبة تستنهض همم المؤمنين للاقتداء بهدي سيدنا محمد ﷺ والسير على منهاجه القويم.
- الاحتفال بذكرى ولادة سيدنا محمد ﷺ هو من باب التذكير بنعمة الله ﷻ وفضله بولادة الهادي البشير وأن عقيدة هذه الأمة راسخة رسوخ الجبال، وأن نور الله ﷻ لا ينطفئ.
- مولد النبي ﷺ غير الكون واشع النور على البشرية وهي اليوم أقدر على النهوض بالأمة على مستوى الفرد والمجتمع.
- الإكثار من دعاء سيدنا يونس عليه السلام ( لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين).
الخطبة الأولى
يستقبل المسلمون في شهر ربيع الأول من كل عام ذكرى عظيمة تستنطق في الفؤاد معاني المحبة، وتستعبر في العيون دموع الشوق، وتلهج الألسنة فيها بذكر سيد البشر الذي أشرقت الأرض باستقباله، وتزينت السماء بقدومه، وبشّرت به ملائكة السماء:
بك بشر الله السماء فزُينت
وتضوعت مسكاً بك الغبراء
وهذه المناسبة المباركة، تستنهض همم المؤمنين للاقتداء بهدي نبيها والسير على منهاجه القويم، فهو النور الذي أشرقت به ظُلمات الجاهلية، وأخرج به الله الناس من العادات الشركية إلى الهداية الربانية، يقول ﷻ: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) المائدة: 15، وقال ﷻ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ الأحزاب: 45-46.
يقول النبي ﷺ: «إنِّي عندَ اللهِ مَكتوبٌ بخاتَمِ النَّبيِّينَ وإنَّ آدَمَ لِمُنْجَدِلٌ في طينتِه وسأُخبِرُكم بأوَّلِ ذلك: دعوةُ أبي إبراهيمَ وبِشارةُ عيسى ورؤيا أمِّي الَّتي رأَتْ حينَ وضَعَتْني أنَّه خرَج منها نورٌ أضاءَتْ لها منه قصورُ الشَّامِ» مسند الإمام أحمد، فالواجب على المؤمن أن يشكر هذه النعمة العظيمة، وأن يؤدي حقها وفاءً ومحبة لمن جعلها الله ﷻ على يديه، وهو سيدنا محمد ﷺ، ويكون ذلك بطاعة أوامره، وانتهاج سنته، واتباع منهجه القويم، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آل عمران: 31.
عباد الله: لقد بشّر الله ﷻ في كتابه الحكيم بولادة الأنبياء والأولياء والصالحين، فذكر ﷻ قصة ولادة مريم عليها السلام وكفالتها من زكريا عليه الصلاة والسلام، وذكر سبحانه قصة ولادة سيدنا يحيى عليه الصلاة والسلام، وقصة ولادة سيدنا عيسى عليه السلام، وأقسم ﷻ بعمر النبي ﷺ فقال: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) الحجر: 72.
وعمر الإنسان يبدأ بلحظة ولادته إلى يوم وفاته، وفي ذلك إشارة إلى أن ولادة الأنبياء حدث عظيم ونعمة جليلة، يحسُن بالمؤمن الوقوف عندها وشكر الله ﷻ عليها، وقد زاد الله ﷻ سيدنا محمداً ﷺ تشريفاً وتعظيماً وتكريماً، وأمر المؤمنين بذلك، فأمرهم بالصلاة والسلام عليه، فقال ﷻ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) الأحزاب: 56، ورفع ذكره الشريف قال ﷻ: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) الشرح: 4، فقرن سبحانه اسمه المُعظّم باسم النبي ﷺ، يقول مجاهد في تفسير الآية الكريمة: وهِي أشْهَد أنْ لاَ إله إلا اللَّه وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رسُولُ اللَّه.
كل ذلك يدفع المؤمنين بقلوبهم الصادقة إلى توحيد صفّهم واجتماع شملهم وكلمتهم، معبرين بأسلوب حضاري عن محبتهم لنبيهم ﷺ والالتزام بشريعته، وإظهار التعظيم والتوقير ونبذ خلافاتهم، والالتفاف حول قدوتهم وقائدهم ومنقذهم من الظلمات إلى النور، والوقوف في وجه كل من يحاول الإساءة إلى هذا الدين وتشويه صورته الحقيقية التي جاء بها النبي ﷺ، الذي أرسله الله ﷻ بالهداية والرحمة للبشر كافة، قال ﷻ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء: 107 .
إن الاحتفال بذكرى سيدنا محمد ﷺ هو من باب التذكير بنعمة الله ﷻ علينا بولادة الهادي البشير، التي نظهر الفرح بها للعالم أجمع قال ﷻ: ﴿قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هو خير مما يجمعون﴾ يونس:58. وليعلم الناس أن نبينا ﷺ عزيز مكين عند أمته التي تحبه وتوقره، وأن الأمة متمسكة بدين الحق الذي جاء به نبيها ﷺ، وأن عقيدتهم راسخة رسوخ الجبال، وأن هذه الأمة مهما عصفت بها الرياح العاتية فستبقى صامدةً كصمود الجبال الرواسي، وسيبقى فيها نور من الله ﷻ لن ينطفئ، وسراج منير لن يخبو ضياؤه، وكتاب حكيم لن ينقطع ذكره، قال ﷻ: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة: 257.
⬛️ وهنا تجِد: خطب عن المولد النبوي — 5 روائِع مكتوبة لتختار من بينها
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102.
عباد الله: لقد كانت البشارة بمولد سيد الخلق ﷺ إرهاصاً للتغيير على المستوى البشري، لذلك كان المولود خير الخلق أجمعين، القادر على تغيير أحداث التاريخ، وتبديل حركة الإنسان في كل زمان ومكان، فكان قدر المولود منسجماً مع عِظم المسؤولية، وجاءت البشائر في عام مولده بحادثة الفيل التي أنزل الله ﷻ فيها سورة كاملة، ذلك العام الذي أذلّ الله ﷻ فيه أبرهة وجنده، وأعز وحفظ وشرّف بيته الحرام، فكان ذلك العام بداية الانتصارات والفتوحات من ربّ العالمين، فكانت نصراً حسيّا لحماية الكعبة من الهدم المادي، ومعنوياً بحماية الإنسان من الهدم المعنوي، ليعود التوحيد خالصاً لله ﷻ.
وفي ليلة مولده الشريف جاءت البشارات لتعم أركان الأرض وتكشف عن حقبة جديدة في تاريخ البشر، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم ارتج إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، كل هذه الأحداث تعلن عن تغييرات بدأت بميلاد النبي ﷺ، القائد الذي تقتدي به البشرية في عملها وإيمانها، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ عَلِمْتَ أَنَّكَ نَبِيُّ؟ قَالَ: «مَا عَلِمْتُ حَتَّى أُعْلِمْتُ ذَلِكَ يَا أَبَا ذَرِّ، أَتَانِي مَلَكَانِ وَأَنَا بِبَعْضِ بَطْحَاءَ مَكَّةَ» فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَهُوَ هُوَ؟ قَالَ: فَزِنْهُ بِرُجَلٍ «فَوُزِنْتُ بِرَجُلٍ فَرَجَحْتُهُ» قَالَ: فَزِنْهُ بِعَشَرَةٍ «فَوَزَنَنِي بِعَشَرَةٍ فَوَزَنْتُهُمْ» ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِمِائَةٍ «فَوَزَنَنِي بِمِائَةٍ فَرَجَحْتُهُمْ» ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِأَلْفِ «فَوَزَنَنِي بِأَلْفٍ فَرَجَحْتُهُمْ» ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: لَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ رَجَحَهَا، مسند البزار.
إن ذكرى المولد النبوي الشريف تمثل منارة أمل تتجدد في كل عام وهي فرصة لكل مسلم للإقبال على الله ﷻ، وإحداث التغيير في نفسه، وهي خير نافذة يتطلع منها المؤمنون إلى واقع ومستقبل جديد، ملؤه الأمل والتفاؤل، والسعي نحو النهوض، فكما نهضت البشرية من قبل بمولد النبي ﷺ بعد أن عمّت فيها ظلمات الجاهلية، هي اليوم أقدر على النهوض، وأجدر أن تزيل عن كاهلها ركام الجهل والعصبية، خاصة وأن تعاليم النبي ﷺ لا زالت حاضرة في قلوبنا، ومحبته قائمة في وجداننا، وكتاب الله ﷻ يرشدنا إلى ما فيه الخير والصلاح.
الحمد لله رب العالمين..