لدينا تلك المناسبة العظيمة؛ فلا أعتقد أنه من الحِكمة أبدًا الحياد عنها بموضوعات أُخرى في خُطب الجمعة. لذلك؛ فهنا لدينا خطبة بعنوان: المولد النبوي الشريف، استنهاض لعزيمة الأمة. فبهذا العنوان لذلك الموضوع نستقبل يوم الجمعة القادم باستعداد قوي وتحضير يليق بهيبة تِلك المناسبة.
وها هي يا إخواني الخطبة بين أيديكم، لتستعينوا بها كاملة، أو تقتبسوا ما يطيب لكم وينفعكم في تحضير خطبتكم.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين؛ القائِل ﷻ في محكم التنزيل ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾. سبحانك ربي ما أكرمك.
ونصلي ونسلم على النبي المختار، المبعوث رحمة للعالمين، وإمامًا للمتقين، وحُجَّة على الخلائِق أجمعين.
الخطبة الأولى
يستقبل المسلمون في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام ذكرى مولد النبي ﷺ النور والهُدى، رحمة الله المهداة للبشرية جمعاء، أرسله الله ﷻ ليكون هداية ونوراً للعالمين، وتمثل هذه الذكرى منارة أمل تتجدد في كل عام للإقبال على الله ﷻ، وهي مناسبة كريمة يتطلع المؤمنون من خلالها إلى واقع ومستقبل جديد، ملؤه الأمل والتفاؤل، والسعي نحو النهوض، وأن تأخذ الأمة مكانتها بين الأمم، فبعد أن كانت البشرية قبل مولده ﷺ تموج بألوان الجهالات والضلالات، جاء مولده الشريف ليُشعَّ نوراً يضيء هذه الظلمات، ويبدد تلك الضلالات، قال ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾.
فتحرر الإنسان بولادة النبي ﷺ الشريفة من براثن الجهل والظلم والوحشية، إلى برّ العلم والرحمة والعدالة والرفق، وقد تمثلت هذه النقلة النوعية في حياة الأمة من خلال جوهر الرسالة التي جاء بها النبي ﷺ، والتي قامت على أساس العلم والرقي الأخلاقي في شتى مجالات الحياة، فكان أول ما نزل من القرآن الكريم على قلب النبي ﷺ هو (قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).
فالأمة اليوم لهي أحوج ما تكون إلى العودة إلى بداية نشأتها التي استنهضت فيهم عزيمة طلب العلم، لتكون أمّة منتجة، تحرك عجلة الحياة نحو الرقي والتقدم، وتبني مستقبلها التليد، وتلقي عن كاهلها ركام الجهل والعصبية، خاصة وأن تعاليم النبي ﷺ لا زالت حاضرة في قلوبنا، ومحبته قائمة في وجداننا، وكتاب الله ﷻ يرشدنا إلى ما فيه الخير والصلاح.
بل إن ذكرى المولد النبوي الشريف لهي مناسبة تستنهض عزيمة الأمة لتذكرنا بوجوب التعريف بالنبي ﷺ، والدفاع عنه، وبيان أخلاقه وصفاته، وتعريف الناس كافة على شريعته وإرشاداته، لتعود هذه الأمة بأخذ دورها الريادي بين الأمم كما أراد لها الله ﷻ، يقول ﷻ: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ)، واستحضار ذكرى المولد النبوي الشريف وما فيه من بشارات وإرهاصات بنبوته ﷺ لهو جزء أصيل من الإيمان، والتعريف بنبينا ﷺ وبيان صفاته الحميدة وأخلاقه الرحيمة، هو جزء من الأمر بالمعروف الذي ورد في الآية الكريمة، وبشارة مولده ﷺ لهي بشارة لكل مسلم، للبدء بالتغيير نحو الأفضل، ونبذ المعاصي، والإقبال على الطاعات بقلوب محبة لله ﷻ مقتدية بخير إنسان وخير قائد، يقول النبي ﷺ: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم» صحيح مسلم.
في مولد النبي ﷺ رأت أمه آمنة حين وضعته نوراً أضاء له ما بين المشرق والمغرب، فعَنِ الْعِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّنَ، وَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي رَأَتْ حين وَضَعَتْ نُورًا أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورَ الشَّامِ» — رواه الإمام أحمد.
فكانت تلك إشارة إلى النور الذي انتشر وسطع في أرجاء المعمورة ، نور العلم، ونور الحضارة، ونور الرحمة، ونور الخلق، ونور العدل، وقد تجسدت في ذات النبي ﷺ وصفاته معاني الرحمة فقال الله ﷻ: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾.
ونحن في هذا البلد المبارك نحتفي بمولد النبي ﷺ محبةً ووفاءً للنبي ﷺ، وإظهاراً لأنواره ﷺ التي أشرقت على قلوب المؤمنين يوم ولادته ولا زالت إلى يومننا تتجدد في كل عام، لتذكرنا بمعاني الرحمة التي جاء بها ﷺ والذي سطّرت مواقفه أعظم وأروع الأمثلة عليها، فحين أتاه ملك الجبال يستأذنه بالانتقام ممن آذوه وأدموا قدميه الشريفتين، قال له: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» — متفق عليه.
وما ذاك إلا لأنه ﷺ قد جاء لبناء الحضارة لا لهدمها، جاء بخلاص الناس من النار لا لهلاكهم، أو الانتقام لنفسه، وقد دعا النبي ﷺ المسلمين إلى وحدة صفهم واجتماع كلمتهم على الخير، والتعاون على البر والتقوى، فكان من أول ما فعله النبي ﷺ بعد أن هاجر إلى المدينة المنورة، أن آخى بين المسلمين مهاجرين وأنصاراً لتكتمل صورة الإسلام بأسمى معانيها، فقال الله ﷻ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
وكان آخر ما وصى به النبي ﷺ قبل وفاته أن قال: «فإنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا، ألا هَلْ بلَّغْت ؟»، قالوا: نعم، قال: «اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض» — متفق عليه.
ولا شكّ أننا في ذكرى مولد النبي ﷺ نستذكر هذا التاريخ التليد مستشعرين نشوة الظفر والنصر والعزة التي عاشها المسلمون في تلك الحقبة من الزمن، مما يدعونا إلى استنهاض عزيمة أبناء الأمة للاجتماع على أسباب قوتها ومنعتها، ونبذ الخلافات والصراعات بين الناس، وإقامة العلاقات مع الناس جميعاً على أساس المحبة والأخوة مستذكرين مآثر وشمائل النبي ﷺ ونهضته بالأمة فيستشرفون مستقبلهم ويتطلعون إلى غد مشرق بإذن الله، فلديهم كتاب الله ﷻ وسنة نبيهم ﷺ، قال ﷺ: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله، وسنة نبيه» — موطأ الإمام مالك.
وها هي سنة نبينا ﷺ حية بين أظهرنا تخاطبنا بشحذ الهمم ورفع المعنويات: «استعن بالله ولا تعجز» — صحيح مسلم.
وأوصيك سيدي الخطيب هنا -أيضًا- الاطلاع على خطبة: وجوب الأدب مع سيدنا رسول الله ﷺ – مناسبة لذكرى المولد النبوي الشريف
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
عباد الله: إن مهمة المسلمين اليوم هي إيصال الصورة الصحيحة لرسالة الإسلام وأنه دين حق، ودين رحمة، وهداية ورشاد، والمولد النبي الشريف خير مناسبة للتعريف برسول الله ﷺ، الذي كان ميلاده للحياة حياة، ومولده كان مولد أمة، وقد بُعث ﷺ جاء برسالة عالمية تشرق أنوارها على الناس كافة.
تجلى مولد الهادي وعمت
بشائره البوادي والقصابا
وأسدت للبرية بنت وهب
يدا بيضاء طوقت الرقابا
لقد وضعته وهاجا منيرا
كما تلد السماوات الشهابا
فقام على سماء البيت نورا
يضيء جبال مكة والنقابا
فإذا أردنا لأمتنا اليوم أن تنهض من جديد، وأن تكون قوة حقيقية تُبعث من جديد فلا بد لها من الاتصال بنبيها عليه الصلاة والسلام، والاقتداء به، ويكون ذلك من خلال التعرف عليه ﷺ لقول الله ﷻ: (أَمْ لَم يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ). وإن أول ما يُسأل عنه الإنسان لحظة دخوله القبر، من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في هذا الرجل الذي أرسل إليك؟، فلا بد أن تكون معرفتك بالنبي ﷺ تؤهلك لأن تكون محل رضى الله ﷻ، وهذا المعرفة تكون بمعرفة صفاته ﷺ والتعرف إلى شمائله، واتباع هديه وسنته.
فاللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والآن خطبائنا الأجلاء؛ قد قدمنا لكم في هذه الصفحة خطبة جمعة مكتوبة، بعنوان: المولد النبوي الشريف، استنهاض لعزيمة الأمة. وكذلك؛ نوصيكم -كذلك- بإلقاء نظرة عن كثب على بعنوان «عزيز عليه ما عنتم».. خطبة قصيرة مكتوبة بمناسبة مولد النبي محمد ﷺ. سائلين الله العزيز الفتَّاح ﷻ أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علّمنا وأن يزيدنا عِلما.