مقدمة الخطبة
الحمد الحي القيوم، الكريم الودود؛ لك الحمد يا رب العالمين، أنعمت علينا بكتابك المبين، وجعلته لنا نورًا في دنيانا وآخرتنا. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، دلَّنا على صراط الله المستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، السائرين على النهج القويم.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي يا عباد الله بتقوى الله، قال الله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون: القرآن الكريم كتاب الله ﷻ وهو أعظم الذكر. يقول الله ﷻ: ﴿وَالقرآن ذِي الذِّكْرِ﴾.
وذكر الله ﷻ يمنح العبد وجوداً وحياةً. يقول الله ﷻ: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ سورة البقرة: 152.
ويقول ﷺ: «كِتابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَّأ مَن قَبْلَكم، وخَبرَ مَن بَعْدَكم، وحَكَمَ ما بَيْنَكم، هو الفَصْلُ لَيْسَ بِالهَزْلِ، مَن تَرَكَهُ مِن جَبّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، ومَنِ ابْتَغى الهُدى في غَيْرِهِ أضَلَّهُ اللَّهُ، وهو حَبْلُ اللَّهِ المَتِينُ، وهو الذِّكْرُ الحَكِيمُ، وهو الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ، هو الَّذِي لا تَزِيغُ بِهِ الأهْواءُ، ولا تَشْبَعُ مِنهُ العُلَماءُ، ولا تَلْتَبِسُ مِنهُ الألْسُنُ، ولا يَخْلُقُ عِنَ الرَّدِّ، ولا تَنْقَضِي عَجائِبُهُ، هو الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الجِنُّ إذْ سَمِعْتَهُ أنْ قالُوا: ﴿إنّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا﴾. ﴿يَهْدِي إلى الرُّشْدِ﴾. مَن قالَ بِهِ صَدَقَ، ومَن حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، ومَن عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، ومَن دَعا إلَيْهِ هُدِيَ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أخرجه ابن أبي شيبة والدارمي والترمذي.
فلنتفكر بهذا الحديث العظيم الذي يدل على أن القرآن لا يَخْلقُ من كثرة الرد. أي أن المسلم كلما ردد القرآن زاده حباً على خلاف سائر الكتب التي كلما رددها الانسان ملَّ منها القلب.
فعلينا بتلاوة القرآن بشكل منتظم فهو خير الاعمال. فالمؤمن الحق هو من يتلو القرآن بشكل دوري ولا يتركه رجلٌ كان أو امرأة حسب قدرته.
وأقل السُّنة أن يختم القرآن في كل شهرين مرة. والسُنة المؤكدة أن يختم القرآن كل شهر مرة، بحيث يقرأ في كل يوم جزءًا لكي يسهل عليكم ختم القرآن. ومن السنة قراءة القرآن في كل أسبوع أيضاً.
عن مكحول قال: [كان أقوياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرؤون القرآن في سبع، وبعضهم في شهر، وبعضهم في شهرين، وبعضهم في أكثر من ذلك] رواه أبو داود.
وقراءة كل أسبوع لها سرٌ عظيم وهو تقسيم جميلٌ مدهشٌ، فبعد قراءة الفاتحة في اليوم الأول تقرأ ثلاث سور، وفي اليوم الثاني خمس سور، وفي الثالث سبع سور، وفي الرابع تسع سور، وفي الخامس احدى عشرة، وفي السادس ثلاث عشرة، ثم المفصل في آخر يوم. وهذا تقريباً يساوي ما تقرؤوه في كل يوم. وهذا تقسيم عجيب علينا تأمله جيداً.
وقد كان بعض الصحابة والصالحين يقرؤون القرآن في كل ثلاثة أيام، والعبرة تكون بالتدبر وليس بالكثرة. يقول الله ﷻ: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ سورة ص 29. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «اقرؤوا القرآن في سبع، ولا تقرؤوه في أقل من ثلاث» اسناده صحيح.
ولا يكفي أن تقرأ القرآن كل يوم فقط، ولكن يجب أن يكون شيء من القرآن تحفظه وتدّخره الى قبرك. قال ﷺ: «إنَّ الذي ليس في جَوْفِهِ شيءٌ من القرآن كالبيتِ الخَرِبِ» أخرجه الترمذي.
وحتى لا يكون جوف المسلم مليئاً بالقال والقيل، والغيبة والنميمة، وإنما يكون قلبه متنوراً بالقرآن. يقول الله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾
ومع القراءة والحفظ على المسلم أن يجعل القرآن حياً في بيته، وبين أبنائه وأهله، يعلمهم ما تيسر منه. والتعلم لا بدّ أن يكون عن فهمٍ وإدراك وتدبر، حتى لا يكون كمن قال الله في حقهم: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ سورة الجمعة: 5.
ومن الأمور التي تعين على الفهم والتدبر قراءة التفاسير المعتبرة والاطلاع عليها. مثل: [تفسير الجلالين، والقرطبي، وابن كثير والبغوي].
اللهم أشرح صدورنا للقرآن تعلما وتدبرا وعملا به يا رب العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله ﷻ لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
هذه أيضًا ⇐ خطبة عن فضل قراءة القرآن الكريم – مكتوبة ومنسَّقة بالكامِل
الخطبة الثانية
الحمد لله حق حمده، وما من نعمة إلا من عنده، والصلاة والسلام على أشرف أنبياءه وخاتِمِ رُسُله، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، وصار على نهجه أما بعد.
قال رسول الله ﷺ: «الجوفُ الذي ليس فيهِ شيء من القرآن، كالبيتِ الخرِب»… تخيل معي هذا التشبيه الرائع من سيد الفصحاء ﷺ، وأنتم تعلمون أن البيت الخرب لا جدران له تحميه، ولا باب له يقيه، ولا متاع له يُزينه، وكذلك جوفُ من هجر القرآن.
الذي يهجر القرآن يكون مُستباح، فكره مستباحٌ بكل الأفكار الضالة، ونفسه مستباحة لكل الشهوات والرغبات والملذات، ولا حماية له بهذه المُهلكاتِ كلها إلا أن يحتمِيَ بالقرآن.
فهو الحصنُ الحصين، وهو السورُ العالي الحافظ، ولذلك سُميت أجزاء القرآن بالسورة، مأخوذة من السور، والسور هو ذلكَ الحائط العالي الحافظ، يحمي المدن من شر أعداءها.
قال ﷻ: ﴿وإنه لذكر لك ولقومك﴾ أي إنه لشرف لك يا محمد ولقومك، يعني القرآن هو الحامي، الذي يحمي كل من احتمى به، فكل سورة من السور هي تحميك من ضلالة من الضلالات، او شبهة من الشبهات، او شهوة من الشهوات أو غير ذلك ..
وبالتالي فإن سُبُلَ الباطلِ كثيرة، حتى انها لا تُستوعب، وأما سبيل الله واحد وصراطه المستقيم واحد.
﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
وأقم الصلاة.