عناصر الخطبة
- حب الأوطان والانتماء لها فطرة غرسها الله ﷻ في قلوب المخلصين لأوطانهم.
- النبي ﷺ هاجر من وطنه مكة المكرمة وهو مشتاق اليها ولولا قومه أخرجوه منها ما خرج ﷺ.
- النبي ﷺ هو القدوة الحسنة في إرساء قواعد المواطنة في الوطن الواحد ووثيقة المدينة المنورة دستور عالمي في هذا الشأن.
- حب الوطن والحفاظ عليه والدفاع عنه مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية.
- التنوع في الوطن طبيعة بشرية ومد جسور التواصل مظهر من مظاهر التمدن الإسلامي.
- المواطنة الصالحة تقوم على التعاون والتشارك بين جميع أبناء المجتمع لبناء الأوطان والمحافظة على مكتسباتها وأمجادها.
الخطبة الأولى
الحفاظ على الأوطان، مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، والمواطنة الصالحة من الضرورات الخمس التي دعا إليها الإسلام وهي حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، فالحفاظ على هذه الضرورات مجتمعة لا يكون إلا بالحفاظ على الوطن من السلب والتمزق، فلا يمكن أن يُحفظ الدين أو تحفظ الأنفس أو تحفظ الأموال أو الأعراض أو حتى العقول دون أن يُحفظ الوعاء الذي يجمع هذه الأمور جميعها، وهي الأوطان.
فالوطن ليس مجرد حفنة من تراب نعيش فوقها، بل هو أمة تتشارك وتتعاون لبناء حضارته، رجال قد شمروا عن سواعدهم لصيانة أمجاده، ونساء تربي أبناءه على الكرامة والشموخ، وجيش يدافع عن مكتسباته، وعشائره تصون إرثه وتاريخه المجيد.
الوطن هو البشر والشجر والحجر، والماء والسماء، والبناء والفكر والثقافة، فالحفاظ على الأوطان من الدين، وسلامة الأوطان من مقاصد الأديان، وقد تجلّت معاني الحب والوفاء للأوطان في موقف النبي ﷺ حينما خرج من مكة فوقف على مشارفها مودعها لها بقوله: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» ← سنن الترمذي.
وقد أظهر القرآن الكريم هذه الحالة الوجدانية والمشاعر الجياشة التي غمرت الصحابة وهم يودعون أرضهم وبلادهم ظلماً وعدوانا، في قوله ﷻ: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ الحشر:8.
لذلك فإن الإسلام يعتبر الدفاع عن الوطن حقاً مقدساً وفريضة واجبة إن تعرض الوطن لعدوان خارجي أو فتنة داخلية، وعلى كل مواطن أن يؤديها قال ﷻ: ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا﴾ البقرة: 246، وقد كان سبب غزوة بدر الكبرى وهي أول غزوة في الإسلام، أحد أهم أسبابها إخراج المسلمين من بلادهم ومحاولة استعادة حقوقهم المغتصبة، قال ﷻ: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ الحج: 39–40.
واعتبر الإسلام أن من قُتل دون وطنه شهيدا كمن يدافع عن عقيدته يقول النبي ﷺ: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، أو دون دمه، أو دون دينه فهو شهيد» ← سنن أبي داود، وهل يجتمع الأهل والمال والدم والدين إلاّ في الوطن.
فحب الأوطان نزعة فطرية غرسها الله ﷻ في قلوب الناس وجعل فراقه من أكثر الأمور ثقلاً على قلب الإنسان ونفسه وبدنه فقال ﷻ: ﴿ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم﴾ النساء: 66، فانظر كيف جعل الإخراج من الوطن مماثلاً لقتل النفس.
يقول الإمام الرازي رحمه الله، في تفسيره لهذه الآية: “فانظر كيف جعل الله ﷻ مشقة فراق الوطن تعادل قتل النفس”، وكان انس رضي الله ﷻ عنه يروي عن النبي ﷺ: «كان رسول الله ﷺ إذا قدم من سفر، فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقته، وإن كانت دابة حركها» ← صحيح البخاري.
يقول ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث: “وفي هذا الحديث دليل على مشروعية حب الوطن والحنين إليه”.
قال الإمام القرافي: “من مقاصد الحج تهذيب النفس في مشقة فراق الوطن”.
قال الأصمعي: “سمعت أعرابيا يقول: إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف شوقه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه ، وبكاؤه على ما مضى من زمانه”.
وقد أخذ الله ﷻ العهود والمواثيق على الأمم السابقة بعدم الاعتداء على أبناء وطنهم بإخراجهم من ديارهم ونفيهم خارجها، وعدّ ذلك من أشد العقوبات، بل جعله الله ﷻ موازياً ومشابهاً لقتل النفس البشرية والاعتداء عليها، قال ﷻ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ البقرة: 84–85.
ولعل من مواساة القرآن لسيدنا محمد ﷺ بعد هجرته من مكة إلى المدينة أن الله وعده بالخروج لوطنه فقال: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ القصص: 85.
عباد الله: إن مفهوم المواطنة في وثيقة المدينة المنورة يعد دستوراً فريداً هذه المعاهدة التي أبرمها النبي ﷺ بعد هجرته إلى المدينة مباشرة، في السنة الأولى من الهجرة، بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة النبوية، وقد أبرزت هذه الوثيقة العظيمة أمرين:
الأول: ميلاد الدولة النبوية في الوطن الجديد. الثاني: صهر المجتمع المدني في أمة واحدة على اختلاف تنوع المواطنين فعلى الرغم من التنوع الثقافي والعقائدي والعرقي في مجتمع المدينة المنورة الذي حوى العربي والفارسي والرومي والمسلم واليهودي، استطاع النبي ﷺ أن يجمعهم في وطن واحد وأمة واحدة ينظمها قانون العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات فجاء في نص هذه الوثيقة: « هذا الكتاب من محمد النبي الأمي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة من دون الناس» ← سيرة ابن هشام .
والحق أن وثيقة النبي ﷺ التي نظم بها المجتمع الجديد في المدينة المنورة قامت على التعاون والتشارك بين جميع أبناء المجتمع لبناء الوطن والمحافظة على مكتسباتها، وقد شبّه النبي ﷺ الوطن بالسفينة التي تجري بركابها، فإن تعاونوا وتشاركوا لما فيه خيرهم ونجاتهم سارت بهم نحو التقدم والرقي، وإن فكّر كل شخص منهم في مصالحه الشخصية، والأثرة لنفسه دون غيره، توقفت السفينة وربما غرقت وأغرقتهم جميعاً، قال النبي ﷺ: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا» ← صحيح البخاري.
فمن واجب المسلمين اتجاه وطنهم إظهار التكافل بين أفراد الأمة وتضامنهم، وتعاونهم في سبيل تثبيت دعائم الحق والخير والفضائل، والقيام على حراسة هذه الأصول والقضاء على الباطل ومحاربة الشرور ومظاهر الفساد والإفساد في الأرض.
إن مفهوم المواطنة يقوم على المساواة بين أبناء الوطن الواحد الذي يعيشون فيه على بقعة جغرافية معينة من الأرض، من حيث الحقوق والواجبات، دون تمييز عرقي أو ديني أو عنصري فالكل يعاملون على أساس واضح من المساواة والعدل والتشارك، فالجميع سواسية أمام القانون، ولا يُنتقص أحد من حقوقه أو يُعفى من واجباته، وهو ما يحقق المصلحة للفرد والمجتمع وللأمة، وقد ضرب لنا عمر بن الخطاب أروع الأمثلة في تحقيق معنى المواطنة بين أبناء المجتمع الواحد.
ويتجلى هذا في العهدة العمرية التي كتبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل القدس وحفظ للمجتمع هناك جميع مكوناته وتعاهد بحفظ جميع فئاته على اختلاف دياناتهم وتوجهاتهم، وها هو يقف سداً منيعاً في وجه من يحاول العبث بأمن الوطن والمواطنين ونشر الفرقة الطائفية والعنصرية بين أبناء المجتمع، وقد أدّب أحد عماله في مصر لأنه تعدى على أحد المواطنين الأقباط دون وجه حق، فلما أقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحق والعدل بين رعيته، عمّ الأمان والاطمئنان، وانتشر الأمن والسكينة بين الرعية، ليكون لنا قدوة في حفظ أمن الوطن وحماية مكتسباته، كلٌّ في موقعه ومكانه، فلا نسمح لأصحاب الأفكار الشاذة والمتطرفة ومروجي الإشاعات أن ينالوا من الوطن ويبثوا سموم الفرقة والتشرذم من خلالنا.
بل لا بد أن نقف سداً منيعاً في وجه هذه المحاولات، وأن نكون جنوداً مخلصين لهذه الأرض التي نعيش على ترابها ونأكل من خيراتها، ونربي أبناءنا في كنفها، فحق هذه الأرض علينا عظيم، وليست الوطنية مجرد شعارات رنانة نطلقها في المناسبات، أو أهازيج ننشدها في الإذاعات، بل هو عقيدة وإيمان، وهو قول باللسان وعمل يصدقه ويبرهن على صحته.
وكما أن الوطن يعطينا من خيراته، فإن له حقّا علينا كبير، وأول هذه الحقوق هو الحرص على بنائه ليكون في مصاف الدول المزدهرة والمتقدمة، وأن نحافظ على ممتلكاته ومرافقه فلا دمار ولا تخريب، وأن يعيش أبناء الوطن في حالة من السلم والتعاون والتشارك فيما بينهم متمثلين بذلك قول النبي ﷺ : «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» ← سنن النسائي.
وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} آل عمران:102.
عباد الله: إن مفهوم الوطنية والانتماء للأوطان يعني العقد الاجتماعي على أن الوطن ملك للجميع ويرفل في خيره كل مواطنيه، للمواطنين فيه حقوقهم وواجباتهم، لأن هناك شريعة تضبطهم وقانون يجمعهم فكيف إذا كانت هذه الشريعة تنزيل من رب العالمين الذي غرس حب الأوطان في النفوس، وجبل الفطر السليمة عليه.
فالوطن هو مكان السجود فكيف لنا أن تحقق السجود بلا وطن، والوطن هو المسجد الجامع وكيف لنا أن تصلي الجمع والجماعات بلا وطن، والوطن هو موارد الزكاة وهو المكان الذي نطلب فيه العلم، وهو المكان الذي نجتمع فيه مع الأهل ونمارس فيه شعائر الإسلام، فكيف يكون المرء مسلما بغير وطن.
لذلك؛ كان الإسلام سباقا في إقرار مبدأ المواطنة منذ عهد النبوة في وثيقة المدينة المنورة، ولا زلنا في حاضرنا المعاصر ننهل في بلادنا من تعاليم هذه الوثيقة التي جمعت الناس تحت ظل راية واحدة مستعينة بالله ﷻ، مستنيرة بتعاليم الإسلام الحكيم الذي أعطى كلّ ذي حقٍّ حقه، فلا بد لنا أن له جنوداً أوفياء، نبني مجده، ونحافظ على مقدراته.
والحمد لله رب العالمين