القراءة طريق الوعي.. نعم، بهذا العنوان المبارك سنطرَح عليكم محتوى نصّي لخطبة الجمعة المكتوبة هذه؛ والتي تتناول فضل وأهمية القراءة، سواءً على المستوى الديني أو التعليمي أو الاجتماعي.. الحقيقة أن الموضوع يحتاج إلى سلاسل من الخُطَب وليس فقط خطبة واحِدة. لكِن دعونا نقول أن هذه مُجرَّد بداية؛ والقادم يأتيكم على خير إن شاء الله ﷻ.
مقدمة الخطبة
الحمد لله العلي الأعلم، حث عباده على القراءة بقوله: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أكرم العلم وأهله، وحض عليه وأعلى مكانته، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أكثر الناس علما، وأقربهم إلى الله منزلة وشأنا، ﷺ وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن خير الوصايا ﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون: لم يكن ابتداء الوحي بالأمر بالقراءة، إلا لعظيم فضلها، وعلو مكانتها، وكيف لا تكون كذلك –يا عباد الله– وهي التي قال الله عنها: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، ثم كرر الأمر بها ثانية قائلا ﷻ: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾.
نعم، هو الأكرم من كل كريم، هو الذي بيده أن يعلمك ما لم تكن تعلم، ويفهمك حق الفهم، ويقوي مداركك، ويوسع معارفك، وفي قوله ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾، إشارة إلى فضل القراءة؛ إذ المقروء يكون عادة مكتوبا، ولا يعني هذا الاقتصار على مكانة القلم وحده، بل في الآية إعلاء لشأن كل وسيلة تقرب من العلم، أكانت مكتوبة بقلم، أم موجودة في حاسوب أو هاتف، أم غير ذلك.
وما ذكر القلم في الآية إلا رمز للوسيلة دون أن يقصد بها حصرها، فإن كان للقلم تلك المكانة فإن ما يقوم مقام القلم من وسائل أخرى لا يقل أهمية عنه أو فضلا.
ومما زاد مكانة زيد بن ثابت – رضي الله عنه – عند الصحابة أنه كان عارفا بالقراءة والكتابة، بل قد جاء في كتب السير أن النبي ﷺ كان يطلق سراح أسرى بدر مقابل أن يعلم كل واحد منهم عشرة من المسلمين، فأن ينال الشخص إطلاق سراحه مقابل هذا لهو من أعظم الدلائل على مكانة تعليم القراءة وتعلمها في الإسلام.
أيها المسلمون: إن من يتأمل المجتمعات ليجد أن من أسباب رقيها وازدهارها انتشار ظاهرة اقتناء الكتب النافعة بأنواعها المختلفة، فإن شراء الكتب يعد من المواطن التي تصرف فيها الأموال؛ ولذلك لا يندم العقلاء على بذل المال في النافع من الكتب؛ ذلك أن المكتبة كنز مدخر؛ إذ يستفيد منها المشتري وكل أهل بيته، بل هي سبب لنشر العلم لو فتح صاحب المكتبة المجال أيضا لإعارة الكتب للأمناء الذين يرغبون في الانتفاع منها، ولذا كان الحريصون على القراءة ينتظرون معارض الكتب بكل شوق؛ إذ فيها متعتهم وأنسهم، وبهجة قلوبهم وسعادتهم، وهي وسيلتهم لنفع أنفسهم وغيرهم.
بل إن اقتناء الكتب –يا عشاق القراءة– يدخل في الصدقة الجارية بعد وفاة الإنسان؛ إذ يمكن أن يستفيد منها غير المشتري بعد وفاته، وهو أيضا داخل في العلم الذي ينتفع به، وقد جاء في الحديث: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
عباد الله: إن مهارة اختيار الكتب لا تقل أهمية عن شرائها؛ فإنه لا بد أن يصطفي الشخص الكتب التي تفيده، سواء أكانت تلك الفائدة دينية أم دنيوية، وسواء أكانت الكتب في تخصص الشريعة مثلا أم اللغة، أم في غيرها من التخصصات؛ كالزراعة، والطب، والهندسة، وغيرها.
فلا يلزم أن تكون القراءة في جانب معين، بل الأهم أن تكون نافعة مفيدة، ومن أهم تلك الكتب الكتب التي تتناول تعاليم الدين بفروعه؛ فإن الفقه في الدين من أسمى ما يسعى إليه العقلاء، وأشرف ما يتعب لأجله الأتقياء، فها هو قول الله ﷻ: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾، ولا ننسى حديث المصطفى ﷺ: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين».
ولا بأس –يا عباد الله– أن يستشير المرء غيره في الكتب النافعة في كل فن؛ فإن الله ﷻ يقول: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، وجاء في الأثر: «لا يمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه، فإن العلم ليس على حداثة السن وقدمه، ولكنه أمر يضعه الله حيث يشاء»، والاستشارة في الكتب داخلة في باب التعاون على البر والتقوى، وتابعة لأمر سؤال أهل الذكر في قوله ﷻ: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾، وهي من زكاة العلم؛ فإن من نشر العلم إفادة الناس بالكتب النافعة المفيدة؛ فقد جاء في الأثر عن أحد التابعين قوله: «لا أعلم بعد النبوة درجة أفضل من بث العلم».
فاتقوا الله –أيها المسلمون– وأعينوا غيركم على كل ما يحبب إلى القراءة، ويدفع إلى المعرفة؛ تنالوا بذلك الأجر العظيم، والثواب العميم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، ﷺ وعلى آله وصحبه وأتباعه المتقين.
أما بعد، فاتقوا الله –عباد الله– واعلموا أن للقراءة فوائد كثيرة، وعوائد وفيرة؛ فبالقراءة تزداد حصيلتك المعرفية واللغوية؛ ولذلك تجد الشخص القارئ أكثر قدرة على التحدث والكتابة؛ لأنه يملك ثراء لفظيا، ومن فوائدها تعود التركيز؛ فإنك حتى تفهم الكلام لا بد أن تركز فيه، وإن تعودت ذلك في القراءة فسيزيد تركيزك في سائر الأمور؛ كالعمل، والصلاة.
وبالقراءة تنمو لدى الشخص مهارات التفكير الأخرى؛ كالتحليل والاستنتاج والربط والنقد، فإنه إن قرأ شيئا حلله، وإن تأمله استنتج أمورا، ولكي يستوعبه لا بد أن يربط بين أطرافه ومعانيه، وألفاظه ومبانيه، وإن لم يقنعه ما قرأه فلربما انتقده، فلن تقتصر هذه المهارات على مجرد القراءة، بل ستتحول إلى عادة تصحبكم إلى واقع الحياة، فتتعودون فيها تأمل الأحداث وتحليلها؛ فتتكون لديكم شخصية ناقدة تعرف صحيح الأخبار من سقيمها، وغث الأفكار من سمينها.
فاتقوا الله –أيها المصلون– واجعلوا هدف القراءة الوصول إلى الحق، والبحث عن الصواب، واتباع الدليل الأقوم والحجة الناصعة، والابتعاد عن كل هوى، حتى نتجنب أن نكون ممن قال الله فيهم: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.