عناصر الخطبة
- رسول الله ﷺ هو المعلم الأول للبشرية وهو القدوة الحسنة للناس.
- مفهوم القدوة الحسنة وكيفية تحقيقها.
- يجب على الوالدين أن يكونا قدوة حسنة لأولادهم.
- المعلمون والمعلمات في المدارس والجامعات هم القدوة الحسنة للطلاب والطالبات.
- الآثار الإيجابية للقدوة الحسنة على الفرد والمجتمع والإنسانية.
الخطبة الأولى
أنار الله ﷻ حياة الناس بأنوار الإسلام بعد أن طغت على الأرض ظُلمات الجهل، جاء الإسلام ليربي النفوس، ويهذّب الأخلاق، وينير العقول، وقد سلك في ذلك منهج التربية بالقدوة الحسنة وذلك لقوة تأثير القدوة الحسنة في التربية باعتبارها مثالاً عملياً حياً على اتباع منهج الله ﷻ، فالله ﷻ لم يخاطب الناس بتوجيهات مباشرة، وإنما أرسل الأنبياء والرسل ليكونوا قدوة صالحة للناس، وأسوة حسنة للتشبه بأخلاقهم وأفعالهم، وهذا هو المنهج الرباني مع جميع الأمم السابقة، قال ﷻ: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) الممتحنة: 4.
ونحن قدوتنا الحسنة، ومثالنا الأعلى هو نبينا ﷺ الذي أمرنا الله ﷻ باتباعه والاقتداء به في قوله وعمله وخلقه، قال الله ﷻ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ الأحزاب: 21، لأنه أكمل الخلق وأحسنهم حالاً وأرفعهم مقاماً، يقول ﷻ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ الحشر:7.
فعلى المسلم أن يقتدي بنبيه عليه السلام وأن يكون قدوة في نفسه صالحة لغيره بأقواله وأفعاله وأخلاقه؛ ولا يكون ذلك إلا إذا طابق قوله فعله، وكانت أخلاقه موافقة لنصائحه وأحواله، فمن فقد المعاني الحسنة والأخلاق الرفيعة في نفسه، فلن يتمكن من نقلها إلى غيره لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وقد قال الله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ الصف: 2- 3.
وجاء في الحديث الصحيح عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» ← صحيح البخاري.
يقول أبو الأسود الدؤلي:
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام من الضنا
كي يشتفي منه وأنت سقيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويقتدى
بالقول منك وينفع التعليم
وأصل القدوة الحسنة يرجع إلى الإيمان بالله ﷻ والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، واقتران ذلك بالعمل الصالح والالتزام بتعاليم هذا الدين الحنيف من العبادات والمعاملات، بأن يكون صادقاً أميناً، بعيداً عن الغش والكذب والرياء، ليجتمع في الإنسان صدق القول وحسن العمل، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، قال الله ﷻ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ فصلت: 33.
فالإنسان مطالب بأن يكون قدوة حسنة في أقواله وأفعاله، حتى يكون شخصاً مؤثراً في مجتمعه ومن حوله، ولنا في سلفنا الصالح خير قدوة، حين كان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم دعاة إلى الله ﷻ بسلوكهم وأفعالهم قبل أقوالهم، فكانوا قدوة لغيرهم في تعاملهم، وأخلاقهم، وبيعهم، وشرائهم، وصاروا سبباً في دخول أمم كثيرة منهم في الإسلام بالقدوة الحسنة، والنموذج الحي للمسلم الحق الذي يُظهر صورة الإسلام النقية المشرقة وتعاليمه السمحة الرحيمة.
عباد الله: كلّ شخص يعدّ قدوة في مجتمعه بحسب قدره ومكانته، فالآباء قدوة للأبناء في كل ما يقومون به، والولد مرآة أبيه، وهو يعكس الصورة الحقيقية لحياة الوالدين، فينبغي أن يكون تعامل الوالدين مع الأبناء بصدق وإخلاص ومحبة، حتى ينشأ الأبناء على الصدق والمحبة والإخلاص، فكيف لأب يكذب على أبنائه أن يطلب منهم الصدق.
والمعلمون في مدارسهم قدوة لطلابهم؛ فعلى المعلم أن يتحلى بالأخلاق الحميدة؛ لأن الطلاب ينظرون إليه نظرة متميزة، فهو المعلم الذي يمضون عنده ساعات نهارهم يعلمهم ويؤدبهم ويوجههم، فحري به أن يكون صورة مشرقة لطلابه حتى يقتدوا به.
والمسؤول في وظيفته قدوةٌ لمن يشرف عليهم في العمل، فإذا صلح في نفسه صلح بصلاحه من حوله، وإذا فسد أثم وأثم من حوله، فكلنا راع ومسؤول عن رعيته كما أخبرنا بذلك المصطفى ﷺ: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته» ← صحيح البخاري.
ومن أثار التربية بالقدوة الحسنة أنها تغرس الروح الجماعية والتعاون في إنجاز الأعمال والمهام؛ فالجميع يقتدون بشخص هو المثال الحيّ والنموذج الأعلى في البذل والعطاء والتضحية والفداء، وعندما أحب الناس القدوة الأولى سيدنا محمد ﷺ؛ قام المجتمع الإسلامي الفريد، مجتمع البذل والعطاء، مجتمعٌ كل فرد فيه يشكل أمة، لأنه تربى على التوجيهات السامية الكريمة والأخلاق العالية الرفيعة.
وإن القدوة الحسنة قد تمثلت في مواقف مشهودة وأحكام بينة، وأولى ما نذكره منها في حياة النبي ﷺ.
ففي العبادة؛ قوله ﷺ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ← صحيح ابن حبان.
وأيضا: لَمَّا فَرَغَ مِنْ صلح الحديبية، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: «قوموا فانحروا ثم احلقوا»، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك، اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا، فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً” صحيح البخاري.
وفي الجود والعطاء؛ جاء عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ،عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «ما سئل رسول الله ﷺ على الإسلام شيئا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة» ← صحيح مسلم.
وفي العفو والصفح؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أخبر: أنه غزا مع رسول الله ﷺ قبل نجد، فلما قفل رسول الله ﷺ قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله ﷺ وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله ﷺ تحت سمرة وعلق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله ﷺ يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: «إن هذا اخترط علي سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله، ثلاثاً” ولم يعاقبه وجلس» ← متفق عليه.
وفي الحِلْم؛ عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين، والله ما قال لي: أفا قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟» ← صحيح مسلم.
فحري بنا أن نتأسى بالحبيب ﷺ فنقتفي أثره، ولنكن أيضاً قدوة حسنة في حياتنا لمن حولنا.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) آل عمران: 102.
على المسلم حتى يكون أسوة وقدوة لغيره أن يبدأ بنفسه، بأن يكون قائماً بنفسه في الأمور التي يطلبها من الناس، فلا يعقل أن يطلب أمراً وهو لا يفعله.
وهذا لا يعني أن الإنسان لا يقع في الأخطاء والذنوب، فلا أحد معصوم عن الخطأ غير الأنبياء عليهم السلام، ولكن إن وقع خطأٌ أو زللٌ من المسلم فليحرص على ستره وعدم المجاهرة به، حتى لا يكون قدوة سيئة لغيره، فيحتمل عندها ذنبه وذنب غيره من الناس، يقول النبي ﷺ «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» ← صحيح مسلم.
فمن ابتلي بشيء من الذنوب والمعاصي فلا يجاهر بها حتى لا يكون بذلك قدوة سيئة لهم، يقول النبي ﷺ: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» ← صحيح البخاري.
يقول الإمام الغزالي: “طوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه”.
والحمد لله ربّ العالمين..