وفي ضوء قول الله ﷻ في سورة البقرة ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾؛ أو في نفس السّورة المُبارَكة هذه وفي آية أُخرى، يقول مولانا ﷻ ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾. نوفر لكم خطبة الجمعة لهذا الأسبوع؛ وهي في غاية الأهمية والخطورة، لما تحويه من نقاط ومحاور قويَّة في موضوعها.
مقدمة الخطبة
الحمد لله وحده، العظبم الجليل ﷻ؛ القائِل في قُرآنه ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْل﴾.
والصلاة والسلام على رسولنا الصَّادق الأمين؛ الذي حذَّرنا من كثير من الفِتَن. فاللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الأولى
لقد جاء الإسلام بمنظومة عظيمة من الأخلاق والقيم، لبناء أمة عزيزة كريمة، قوية في ذاتها، قادرة على نشر الخير والفضيلة بين الأمم، هدفها الوصول إلى مجتمع تسوده المحبة والأخوة والوئام بين أبنائه، يقول ﷻ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.
ولا يخفى على ذوي الألباب والعقول أن أخطر ما يهدد الأّمة والوطن هو ما يحاول أصحاب الفتن بثّه في المجتمع لإضعاف قوته، وتشتيت شمل اهله، وإيهان عزيمته، وبالتالي فإن خطر هؤلاء عظيم، وفسادهم عميم، لأنهم كالخفافيش لا يحبون النور ولا يعملون إلا في الظلام، وقد ذكر الله ﷻ أذاهم ووصفه بأنه أكبر ضرراً في المجتمع من القتل فقال ﷻ: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾. وقال ﷻ: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾.
والمقصود بالفتنة الانحراف عن الصراط المستقيم، والمنهج القويم، إلى منهج الشرك بالله ﷻ والإفساد في الأرض، لذلك كان الواجب على المؤمنين الحذر منهم، وواجب على العلماء بيان زيف أفكارهم، وتفنيد كذبهم وشائعاتهم، حتى يبقى المجتمع محصناً من أفكارهم الظلامية المتطرفة.
كما يجب على كل مسلم أن يحرص على عدم نشر الفتن العمياء التي لا تصيب أحداً إلا آذته وألحقت الضرر به، وأن يحصن نفسه وأهله من الوقوع والخوض في ذلك الشر المستطير، لذا أوصانا النبي ﷺ إلى أن وسيلة التصدي لهذه الفتن هو لزوم جماعة المسلمين، وعدم الخروج عليهم بسبب شهوة وهوى متبع فإنها خير وسيلة لمواجهة هذه الفتن، قال ﷺ: «عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ» ~ سنن الترمذي.
وكما حذرنا ﷺ من عاقبة الخروج عن الجماعة، وأنها سبب في رجوع الجاهلية العمياء إلى الأمة ولا بد من الأخذ على يد كل من تسول له نفسه إثارة الفتن والقلاقل في المجتمع، ويحاول نشر الفزع وزعزعة الأمن بين الناس فقال ﷺ: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ» ~ صحيح مسلم.
فمن سوّلت له نفسه المساس بهيبة الدولة، أو الخروج عن قوانينها، وتخريب النظام فيها، والاعتداء على رجال الأمن فيها، ورفع السلاح في وجوههم، فهو من أصحاب الفتن ويجب محاسبته ومعاقبته العقاب الرادع، الذي يحفظ أمن البلاد واستقرارها.
وإن من أعظم الفتن التي ابتليت بها أمتنا في زماننا المعاصر، الابتلاء بخوارج العصر، الذين يسعون في الأرض فساداً ويحاربون أهل الإسلام، ويستبيحون دماءهم وأموالهم، ولا يرون حرمة لدم إنسان، وقد خاضوا في لجّة التكفير، فحملوا السلاح على الآمنين، والنبي ﷺ يقول: «من حمل علينا السلاح فليس منا» ~ متفق عليه.
ثم ارتكبوا أعظم الآثام والذنوب وهي الاعتداء على الأرواح الآمنة، وقد قال الله ﷻ: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾. وقال ﷺ : «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبِعْ بعضُكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره؛ التقوى هاهنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات– بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» ~ رواه مسلم.
وقال ﷺ: « لن يزال المؤمن في فسحة من دينه مالم يصب دما حراما» ~ رواه البخاري.
وما الاعتداءات التي حصلت على رجال الأمن في أُردن الأمن والأمان في الأيام المنصرمة والتي التحق فيها ثّلةٌ بركب الشهداء الذين سبقوهم في تقديم التضحيات العظيمة للحفاظ على أمن البلاد وعزتها وكرامتها، إلا دليل على إجرام هذه الفئة الخارجة عن القانون، وما تلك الاعتداءات الغاشمة إلا دليل على فكر ظلامي يريد من خلاله المتطرفون زرع الفتنة في المجتمع، ولكنهم بإذن الله ﷻ لن يحصدوا إلا السراب، ولا ينالوا إلا الخزي والعار، ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾.
وسيبقى هذا البلد بإذن الله ﷻ عصياً على كلّ من تسول له نفسه أن ينال من أمنه واستقراره وسيبقى أهله الأخيار ورجال أمنه البواسل، السدّ المنيع والسياج الحامي لهذا الوطن العزيز، فكما أن العلماء الصادقين يحرصون على بيان زيف وكذب أدلتهم وأفكارهم المتطرفة، فكذلك رجال الأمن يقفون في وجه كل من يحاول العبث بأمن الأوطان، وتهديد أرواح الآمنين، حتى تجتمع بذلك أركان قوة المجتمع.
كما يجب على جميع المسلمين الحذر من تلبيس دعاة الفتنة الذين يحاولون الاصطياد في الماء العكر، وإيقاع عوام الناس في حبائلهم وشراكهم بما يلبسونه على الناس من الكلام الذي باطنه الكذب وتزوير الحقائق، فهؤلاء مثلهم كمثل الذين قال عنهم الله ﷻ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.
فينبغي على المسلم أن يكون كيساً فطناً، لا تنطلي عليه هذه الأكاذيب، حتى لا يتحول إلى أداة بأيدي أصحاب الفكر الظلامي الإجرامي، فإن أهداف هؤلاء معروفة معلومة عند أهل العلم، وقد قال ﷻ: ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾.
لذلك حرص الإسلام على وأد بذور الفتنة قبل وقوعها، واجتثاثها من أصولها قبل ظهورها، وجعل عقوبة الجرائم التي يقوم بها المتطرفون عقوبة شديدة ، وهي تعرف عند العلماء بـ “حد الحرابة” أو “قطاع الطريق” وهو المذكور في قول الله ﷻ: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم﴾.
لذلك يجب على كل مسلم أن يحذر من الاعتداء على المرافق التي وضعت لخدمة الناس، لأنه اعتداء على المال العام، وتخريبه هو الإفساد في الأرض الذي نهى عنه الله ﷻ ونبيه الكريم، كما يحرم على المسلم ترويع الآمنين، وتخويفهم، وقطع الطرق عليهم، وقد قال النبي ﷺ: «من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه، حتى يدعه وإن كان أخاه لأبيه وأمه» ~ صحيح مسلم.
وهنا: خطبة عن الفساد وعاقبة المفسدين في الأرض
الخطبة الثانية
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، يقول الله ﷻ: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾.
عباد الله: إن أهم مقومات الحفاظ على الأوطان، وإظهار الولاء والانتماء لترابه، أن يبتعد المُسلم عن كلّ ما يمس أمن الوطن أو يسيء إلى مكانته وسمعته بين الأمم، وأن يحذر من تناقل الشائعات الهدامة، والأخبار الكاذبة، وأن يبتعد عن الاختلاف والتفرق الذي يفت في عضد الأمة ويفرق صفها، ويوهن هيبتها، ويقلل من شأنها قال ﷻ ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾.
فالأمة المتشرذمة غير قادرة على الإنتاج أو إدارة عجلة الحضارة، بل هي مشغولة دائماً بمشكلاتها الداخلية والخارجية.
إن تعبير الانسان عن رأيه لا يتيح له الاعتداء على أموال الناس واعراضهم ودمائهم وقطع الطريق عليه، فقد رسم الاسلام آداباً وضوابطَ لكل تصرف في حياة الانسان المسلم، وهذا لا يكون إلا بالتربية الإسلامية الصحيحة وربط حياة الناس بالتعلق بكل جزء من ثرى الوطن، ويكون بالالتزام بالقوانين والأنظمة التي تحافظ على أمن البلاد واستقرارها.
وصلّ اللهم وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا المصطفى ﷺ
وبعْد يا أحِبَّة؛ فقد كانت هذه خطبة: الفتنة أشد من القتل. وهي أحد خطب الجمعة المكتوبة التي نوفرها لكم؛ سائِلين المولى الكريم الحليم ﷻ أن ينفعنا وإياكم بكل ما نقدمه لكم —عبر صفحات موقع المزيد.كوم— من خطب ودروس عِلم وفِقه ومحاضرات دينية.