خطبة عن الغلو والإفراط – مكتوبة

خطبة عن الغلو والإفراط - مكتوبة

مقدمة الخطبة

الحمد لله الذي حث على الحكمة والاعتدال، وجعل عاقبة الغلو سوء المآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أكثر الناس حكمة، وأحرصهم على ما فيه لين ورحمة، ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين، وكل من تبع نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا عباد الله: إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، واسعوا إلى أن تكونوا خير عاملين به، حريصين عليه، داعين الناس إليه.

الخطبة الأولى

أيها المسلمون: اعلموا -أبعد الله عنكم كل غلو- أن الخير -كل الخير- في الاعتصام بهذا الدين القويم، واتباع هديه الكريم ﴿وَمَن يَعْتَصِمِ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾. ومن تعاليمه التي جاء بها وحض عليها مدح الحكمة والإنصاف، وذم الغلو والتطرف.

والغلو -يا عباد الله- مجاوزة الحد في الشيء، فلذلك ينبغي لكل مسلم أن يكون أحرص الناس على ما فيه خير، وأبعدهم عن كل تعصب وشر.

ولأهمية الأمر وخطر الغلو جاءت الآيات الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، فقد قال الله -تبارك وتعالى- ناهيا أهل الكتاب عن ذلك: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾، ونهى -تقدست أسماؤه- عن الغلو ومجانبة الاستقامة في الدين قائلا: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.

والنبي المصطفى -صلوات الله وسلامه عليه- كان أحرص ما يكون على بيان الغلو، والتحذير من عظيم خطره، فقد جاء عنه: «هلك المتنطعون»، أي: من يتجاوز الحد في أقواله وأفعاله.

أيها المؤمنون: إن لعدم الاعتدال صورا كثيرة، ونماذج وافرة، ومن ذلك الإفراط في الحكم على الناس دون بينة، أو أثارة من علم أو دليل، وهذا ما ذكره الله عن اليهود والنصارى حين قال -تبارك وتعالى-: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، ومن الابتعاد عن الحكمة الإفراط في العصيان، والانهماك في ارتكاب ما يغضب الملك الديان، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.

ومن الإفراط المبالغة في مدح الآخرين، فقد «أثنى رجل على رجل عند النبي ، فقال: ويلك! قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك! مرارا، ثم قال: من كان منكم مادحا أخاه لا محالة، فليقل: أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه».

ومما يدخل في جانب عدم الحكمة والقرب من المبالغة وعدم الاعتدال ما يفعله بعض الناس من ازدراء من يخالفهم في فكرة أو رأي لمجرد أنه لم يعمل بقولهم، والأصل في مثل هذا أن يكونوا متبعين لهدي القرآن القائل: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، ونهجه القويم المنادي إلى المحاورة الحسنة حين قال: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.

فاتقوا الله -عباد الله-، واحرصوا على أن تكونوا ميسرين لا معسرين، مقربين لا منفرين؛ فإنه من أعظم القربات إلى الله أن يكون الإنسان قدوة محببا إلى الناس جمال الشريعة الغراء، وداعيا إلى مبادئها بفعله وقوله.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.

مُقترحة ⇐ خطبة: الإصلاح بين الناس خير وسيلة إلى الفلاح – مكتوبة

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أكرم المعتدلين بالأجر، ورتب على تجنب الغلو عظيم الفضل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أكثر الناس حكمة وفهما للدين، وأبعدهم عن كل ما يشين، ﷺ وعلى آله وأصحابه الطيبين، ومن سلك مسلكهم إلى يوم الدين.

أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن الخير في الاعتصام بهدي هذا الدين القويم الذي يحرص على أخذ الأمور بحكمة، وينبذ كل ما ينافيه من غلو أو تطرف؛ لأن لذلك آثارا كثيرة، وأضرارا خطيرة، ومن ذلك مثلا أن الذي يبالغ في تتبع عيوب الناس حد الإفراط يضيع عليه الاشتغال بعيوبه، وقد وصف الحبيب المصطفى ﷺ من هذا حاله بقوله: «يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه».

وليس معنى هذا أن يحرم الإنسان نفسه أجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما المراد ألا يكون كل همه تتبع عيوب الناس وعوراتهم، جاء في الحديث: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته»، وقد قال أحد البلغاء: “لو تأملت أحوال الناس لوجدت أكثرهم عيوبا أشدهم تعييبا”.

ومن آثار الإفراط في لوم النفس على الذنب أنه يوقع الإنسان في اليأس الذي ذمه القرآن الكريم؛ لأن الإنسان الذي يبالغ في لوم نفسه سيشتغل عن التوبة، ويبتعد عن مواصلة الخير، قال تعالى على لسان يعقوب -عليه السلام-: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.

فإذا كان رب العزة والجلال يخاطب نبيه بقوله: ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾، فكيف بعبده المسلم الذي غلبته نفسه، ثم تاب إلى الله توبة نصوحا ورجع وأناب! لا شك أن الله يقبل توبته ما دام صادقا، وإلى الحق راجعا.

فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، واسعوا إلى التمسك بهدي القرآن تفلحوا، وإلى العمل بسنة النبي تنجحوا.

هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error:
Scroll to Top