«دلني على عمل يدخلني الجنة..» هل تتذكرون هذا الاستفسار الرائِع الذي وُجّه إلى رسول الله ﷺ؟ نعم؛ إننا اليوم بصدد خطبة جمعة رائِعة تدور حول هذه الوصية النبوية النافعة في الدنيا والآخِرة؛ وهي اجتناب الغضب وأسبابه ومواطِنه.
مقدمة الخطبة
الحمد لله الغفور الحليم، خالق الإنسان في أحسن تقويم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحب من عباده خصال الخير ويهديهم إلى صراط مستقيم، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، من وصفه ربه بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، ﷺ، وعلى آله وصحبه وأتباعه ذوي الخلق الكريم.
أما بعد، فاتقوا الله –عباد الله–، فإن في التقوى طيب الحال، وراحة البال، والفوز في المآل ﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون: أما سمعتم بذلك الرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ يطلب منه نصيحة، فيجيبه النبي ﷺ بكلمتين، ثم يأتيه الرجل مرة أخرى يطلب النصيحة؛ فيجيبه بالكلمتين نفسهما، ويأتي ثالثة ورابعة، والجواب هو الجواب، ففي الأثر: «أن رجلا قال للنبي أوصني، قال: لا تغضب، فردد مرارا، قال: لا تغضب».
وجاء إلى النبي عليه السلام رجل آخر له شأن آخر؛ فقد طلب من النبي ﷺ أن يخبره بعمل يدخله الجنة، فماذا كان ذلك العمل العظيم الذي يفوز به الإنسان الفوز العظيم؟ والخبر عند أبي الدرداء رضي الله عنه، فعنه: «أن رجلا جاء إلى رسول الله ﷺ فقال له: دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال رسول الله: لا تغضب»، وهذه الوصية إذا كانت تدعو الإنسان إلى كظم الغيظ وعدم إظهار الغضب، فإنها تدعو قبل ذلك إلى البعد عن أسباب الغضب وتجنب مواطنه وعدم الاقتراب منه.
ولو لم يكن كظم الغيظ من جليل الأعمال وعظيم الأخلاق لما كان جزاؤه جنة عرضها السماوات والأرض، ولما كان أعلى درجات مقام الإحسان؛ فإن في القرآن الكريم ما يرشد إلى أن مقام الإحسان يبدأ من اجتناب كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، يقول الحق ﷻ: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾.
وأعلى درجات ذاك المقام في أعمال عظيمة منها كظم الغيظ والعفو عن الناس. وفي بيان ذلك يقول الله ﷻ: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.
ومن أراد أن يتصف بخصلة يحبها الله ورسوله فعليه بالحلم، والحلم نقيض الغضب، فقد قال النبي ﷺ لأشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة».
وقد قيل إن معنى قول الله ﷻ في وصف يحيى عليه السلام: ﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾، أن السيد هو الذي لا يغلبه الغضب، ومن خبر من ضرب بهم المثل في الحلم أن أحدهم مشى معه رجل فأخذ يذكره بسوء وهو لا يعلم أن الذي يمشي معه هو نفسه الذي يذكره بالسوء، فمشى معه حتى بلغ المذكور بالسوء بيته فقال للرجل: هل بقي معك شيء تقوله يا ابن أخي؟ قال: لا، قال: ومن أنت؟ قال: أنا فلان، ودخل بيته من غير أن يرد عليه بشيء، وتلك –لعمر الله– أقوى القوة وأسمى درجات ضبط النفس؛ ولذلك قال النبي ﷺ: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
وهنا أيضًا خطبة: الغضب وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، ﷺ، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد، فاتقوا الله –عباد الله–، وليعلم ذلك الغضبان الذي لم يكظم غيظه أنه يؤذي نفسه قبل أن يؤذي غيره، ومن محاسن الحكم قولهم: الغضب عقاب يعاقب به الإنسان نفسه على خطأ ارتكبه غيره، وحسب الإنسان أنه يخرج من حدود العقل وتصرفات العقلاء عند الغضب؛ فإن الغضب شعبة من شعب الجنون، وقد قيل في الحكمة: الغضب جنون قصير، وقيل: أول الغضب جنون وآخره ندم، وقال أهل الحكمة: الغضب يطفئ نور العقل، والحقد يطفئ نور القلب، وقد شبه الغضب بالكلب العقور الذي يعض صاحبه ويعض الناس.
فكم من غضب أدى إلى قطيعة، وكم من غضب أدى إلى اعتداء إنسان على إنسان فسبه وشتمه، وصرخ في وجهه وأساء إليه، بل قد يصل الحال إلى الدفع والضرب، بل كم من إنسان غضبان دفعه غضبه إلى قتل أخيه أو صاحبه، أو ابن عمه أو قريبه، بل هناك من اعتدى على أبيه أو أمه –والعياذ بالله– ولذلك قال من قال: أوثق غضبك بسلسلة الحلم؛ فإنه كلب إن أفلت أتلف.
وقد قيل: دواء الغضب الصمت، وقد أرشدت الآثار إلى تغيير الهيئة عند الغضب والانصراف عن ذلك المكان، وقد قال أحدهم: “إنما غضبي في نعلي، فإذا سمعت ما أكره أخذتهما ومضيت”، وحسبنا قول الله فيمن يقابل السيئة بالحسنة: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.
خُطَب جمعة مُختارة
لديّ أيضًا بعض الخطب، أُريدك أن تُلقي نظرة عليها؛ فقد تنال إحداهم اختيارك لتكون خطبتك القادمة: