مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي أعلى للمتقين المخلصين منزلة وذكرا، وأعظم للعالمين العاملين مثوبة وأجرا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر عباده أن يعبدوه على بصيرة، وأن يتقوه في العلانية والسريرة، ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، خير الأولياء العاملين، وأفضل العابدين الصادقين، ﷺ، وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.. فإني أوصيكم ونفسي –عباد الله– بتقوى الله ﷻ، فإن تقوى الله جماع كل خير، وأصل كل فضيلة ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا﴾.
الخطبة الأولى
واعلموا –رحمكم الله– أن المسلم وهو يسير في هذه الحياة الدنيا على مركب الإيمان لا بد له من العمل الصالح الذي يوصله إلى بر الأمان، لذا كثيرا ما يقرن المولى –جل وعلا– في كتابه الكريم بين الإيمان والعمل الصالح، يقول سبحانه في ذلك: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً﴾.
وما الحياة الدنيا هذه –في حقيقتها– إلا مزرعة للآخرة، يجتهد فيها ابن آدم بانيا، ويسعى فيها عاملا، حتى إذا انتقل إلى دار القرار والخلود وجد جزاء عمله، ونتيجة سعيه، يقول الرقيب الحسيب: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى﴾.
أيها المؤمنون: إن عمل المؤمن لا بد أن تتحقق به أمور حتى يوصف بالصلاح، ويكتب له عند الله القبول، ومن هذه الأمور التي لا بد من مراعاتها العلم، فالله ﷻ لا يعبد على جهل ووهم، بل على فقه وفهم. إن العلم بأحكام العمل الصالح، وشروطه، وآدابه، هو الباب الذي يلج به المسلم إلى عمله، ويبني عليه جهده، ومن أتى العمل من غير بابه؛ كان خطؤه أكثر من صوابه ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾.
لقد بين الشرع الشريف ما يتعلق بالعبادات والفرائض صحة وفسادا، شروطا وأركانا، أحكاما وآدابا، كما بين ما يتعلق بالمعاملات والعلاقات من أحكام ولوازم وآثار، وفصل في بيان المحرمات والمنهيات، فالمؤمن العاقل من يعلم من ذلك ما يحقق به عبوديته، ويحمي به دينه، ويرضي به ربه، وقد يظن بعض الناس أن المرء يعذر بجهله في ترك واجب، أو إفساد فرض، أو انتهاك محرم، ولعمري لو كان الأمر كما ظنوا لكان الجهل خيرا من العلم، وأسلم للفتى وأشرف ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ﴾.
إخوة الإيمان: إن أعظم أمر يجعل العمل مقبولا عند الله تعالى التقوى، أولم يقل سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾؟ فقصر سبحانه وتعالى قبول العمل على من كان لله متقيا، وهذه العبارة القرآنية التي تتضمن اشتراط التقوى لقبول العمل هي من أول العبارات في التأريخ البشري، نقلت إلينا في كتاب الله سبحانه عند ذكر قصة ابني آدم يوم تقبل الله تعالى من أحدهما قربانه ولم يتقبل من الآخر ﴿قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾.
وهذه السنة الربانية في قبول العمل تنطبق على كل البشر في أي أمة كانوا، وفي أي بقعة من الأرض عاشوا؛ لذا رد الله –جل جلاله– أعمال أهل الكفر والجحود ولو كانت أعمال خير وبر لانتفاء شرط التقوى، فعن عائشة –رضي الله عنها– قالت: “قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: «لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين»”، ويقول الملك العلام جل جلاله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، ويقول سبحانه وتعالى عن المنافقين: ﴿قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾.
فلا بد للمرء أن يكون متصفا بالتقوى، يعيش بها ويموت عليها؛ حتى يقبل الله تعالى منه أعماله، ويجعلها له يوم القيامة ذخرا. والمؤمنون الأتقياء –عباد الله– يكونون دائما في خشية من أن لا تقبل أعمالهم، يقول أحد العارفين: “الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل”، وجاء عن علي بن أبي طالب –كرم الله وجهه– قوله: “كونوا لقبول العمل أشد هما منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾.
فاتقوا الله –أيها المؤمنون– واحرصوا على أن تصيبوا وجه الحق في أعمالكم، وتنالوا بها القبول عند مولاكم، فبالتقوى والإخلاص والعلم يحقق المسلم لعمله القبول والصلاح، يقول أحد العلماء: “العمل لا يصلح إلا بثلاث؛ التقوى لله ﷻ، والنية الحسنة، والإصابة”.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
⇐ وهنا: خطبة مكتوبة عن العلم والعمل.. مفاتيح الفلاح
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فاعلموا –عباد الله– أن من أعظم مظاهر التقوى إخلاص العمل لله ﷻ، فالإخلاص أساس لصلاح العمل وقبوله، وهو أن يتجه المسلم بكليته قاصدا بعمله وجه الله وحده، لا يطلب به حظ نفس، ولا يرجو به متاع دنيا، فثم النقاء والصفاء والخلاص.
إن العمل القليل مع الإخلاص يكون عند الله عظيما، والأعمال الكثيرة ولو كانت كالجبال عظمة ينسفها عدم الإخلاص نسفا، وهل يطلب الله تعالى من عباده –أيها المخلصون– إلا الإخلاص له في عباداتهم، يقول سبحانه: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾، ويقول ﷻ: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾، ويقول خير الخلق: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
وحال العمل الذي يقصد به مع الله غيره، كحال العمل الذي لم يرد به وجه الله، آثم صاحبه، مردود إليه سعيه، ففي الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»، ويقول المصطفى: «يا أيها الناس، أخلصوا الأعمال لله، فإن الله ﷻ لا يقبل من العمل إلا ما خلص له، ولا تقولوا: هذا لله وللرحم، وليس لله منه شيء، ولا تقولوا: هذا لله ولوجوهكم، فإنه لوجوهكم، وليس لله منه شيء».
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.
⇐ وأترككم لتتابعوا الاطلاع أيضًا مع.. خطبة عن فضل طلب العلم