مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي جعل العقل زينة للمؤمنين، وألبسهم به لباس الحكمة ليكونوا من الموقنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أفضل العقلاء منطقا، وأحسن الفطناء منطلقا، ﷺ وعلى آله وصحبه وأتباعه أولي البصائر والتقى.
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله؛ فإن التقوى حلية العقلاء، نافسوا بها أنفسهم ليكونوا في الآخرة من السعداء، ﴿وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾، واعلموا –رحمكم الله– أن الله ﷻ خلق الإنسان وميزه عن غيره من المخلوقات، يقول ﷻ: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾.
الخطبة الأولى
ولا ريب أن أجمل ما يتميز به هذا الإنسان أن جعله الله ﷻ عاقلا ليبصر بعقله الحقائق، ويفصل بين الصواب والخطأ، ويكفي العقل شرفا أن الله ﷻ جعله مناط التكليف، وقد جاء في القرآن الكريم ذكر استعماله للتفكير والنظر في مقام المدح والرفعة لمن أحسن استعماله، وفي مقام التقبيح لمن أهمل أو أساء التأمل والتدبر به في أحواله، ومن رحمة الله ﷻ بعباده أن أنزل إليهم القرآن ليمعنوا في آياته تدبرا، ويحسنوا النظر فيها تفكرا، يقول ربنا ﷻ: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾.
أيها المؤمنون: جاء القرآن الكريم مخاطبا أهل العقول ليشتغلوا بعقولهم فيما يجلب إليهم صلاحهم، فها هو يدعوهم إلى النظر في خلق الله العظيم، ليتحقق الإيمان به ﷻ في قلوبهم، وتترسخ معرفته في نفوسهم، يقول الله ﷻ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، ولا غرابة أن الله ﷻ يدعو عباده إلى النظر والتدبر في كتابيه المقروء والمنظور –القرآن والكون المسخر–، وهو دليل على إحكام التنزيل وإبداع الخلق.
والنظر فيهما يجلب إلى الإنسان النجاح والتوفيق في رسالته التي ناطها المولى به، ووكلها إليه، يقول الله ﷻ: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾، ويقول ﷻ: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، وقد كان رسول الله يولي التفكر أهمية، فقد جاءه بلال يؤذنه بالصلاة، فرأى نبينا يبكي، قال: يا رسول الله، لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟! قال: «أفلا أكون عبدا شكورا! لقد نزلت علي الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: إن في خلق السماوات والأرض…».
أيها المسلمون: مع هذه الدعوة الصريحة إلى استعمال العقل بالنظر والتدبر والتمحيص، إلا أن الشارع الحكيم وضع ضوابط لهذا التفكر وجب على المرء أن يعرفها، وأول هذه الضوابط أن يكون الإنسان وقافا عن الخوض في التفكر في ذات الله –تعالى شأنه–، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق؛ فإن فتنة كل أمة بعد نبيها تفكيرها في الخالق، وكذلك فتنة أمتي بعدي».
ولا غرابة؛ فإنه لما كثر المتفكرون في الخالق كثر الملحدون وانتشر المتشككون، ولو أمعنوا في النظر في عظم خلقه وإبداع صنعه لقادهم إلى معرفته دون عناء، وأصلح نفوسهم من الوقوع في دوامة الهم والشقاء.
وعلى المسلم أن يعلم أن مما يؤمر به ويدعى إليه سؤال أهل الاختصاص من العلماء إن اشتبه أو أشكل عليه أمر، والله ﷻ يأمر بذلك فيقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾، وقد كان السؤال للتعلم وإزالة الشبهات منهجا عند صحابة النبي ﷺ، فلا تخلو كتب الحديث من روايات فيها أن أناسا من أصحاب النبي ﷺ جاؤوه فسألوه، أو جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله –يسأل عن حاجته–.
فحري بالمؤمنين أن يجعلوا السؤال عما يشتبه عليهم منهجا في حياتهم كي لا يبقى في نفوسهم فيتلف أفكارهم أو يفسد عقولهم، وقد قيل لأحد العارفين: بم نلت ما نلت من التحصيل؟ قال: بكثرة السؤال.
عباد الله: إن دينا رفع منزلة التفكير ورعى للعقل حقه لا يليق بالإنسان إلا أن يقف له إجلالا وتعظيما واحتراما، ولا غرو أن من صد عن اتباع الحق ظالم لنفسه مبين، وقد بين لنا القرآن الكريم حال المتخاذل عن استعمال عقله فاتبع الهوى وجانب الفطنة، يقول الله ﷻ فيمن هذه حاله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، فأي عذر لمن ساقه هواه إلى معصية الله؟!
وأي حجة لمن أغلق قلبه وعقله عن الوصول إلى هداه؟! ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.
ومع أن الشارع الحكيم لم يجبر الناس على اتباع تعاليم هذا الدين الحنيف إلا أنه لم يدع للعاقل مجالا للخدش في أوامره، ولا فرصة لتحقيرها؛ فأنوار خيره بينة، وبراهين صدقه واضحة، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾، وفوق ذلك جعل من البراهين سلما يصعد عليه العقلاء إلى الحق، وسبيلا يتضح به صدق المدعي من كذبه، ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.
فاتقوا الله –عباد الله–، ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
⇐ هنا أيضًا يا أكارم: خطبة عن المخدرات ونعمة العقل
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا رسول الله، ، وعلى آله وصحبه وأتباعه المقتفين آثاره وخطاه.
أما بعد، فاتقوا الله –عباد الله–، واعلموا أن من حسن أخلاق المرء أن يزن أفعاله وأقواله بعقله، فلا يجعل تصرفاته تنطق بما لا يليق به وهو من جملة المكرمين بالعقل، ولا يطلق لنفسه العنان عند الغضب مثلا فيأتي بالقبيح من الأفعال، ويتصرف بما لا يحمد في العاقبة والحال، فإن الشديد من أدار نفسه بعقله، وملكها عند غضبه، والنبي ﷺ يقول: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».
ومن تمام استخدام العقل أن يسير به المرء إلى صلاح دينه ودنياه، واستقامة أولاه وأخراه، فلا يرمي بنفسه في تهلكة، ولا يلقي بها في مغبة فساد، يقول الله ربنا ﷻ: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، فكيف بنا ونحن نسمع عمن يتحرى طريق المسكرات والمخدرات، ومن يسرف في التهور في قيادة السيارات، أو يقصر فيما ينفعه في آخرته من الإحسان في العبادات، أو يتعالى على خالقه العظيم فينكر عبادة رب الأرض والسماوات، يظن أنه ناج من المهالك، ﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾، فلا وربك إنه تاجر بهواه فباع عقله ثم أرداه، فحق فيه قول ربه ومولاه: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾.
فاتقوا الله –عباد الله–، واستجيبوا لربكم فيما ينجيكم من عذابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.