ومن جديد نلتقي والخطباء في كل بقاع العالم الإسلامي؛ مع دُرَّة اليوم، انها خطبة عن العفو والإحسان؛ تلك التي تعكس الكثير من العناوين التي يُمكن للخطباء أن يصولوا ويجولوا فيها؛ مثل: العفو والصفح، العفو والتسامح، العفو عند المقدرة.
أو تلك الطائفة الثانية؛ مثل: خطبة عن الإحسان في القول والعمل، الإحسان إلى الناس.. وهكذا.
مقدمة الخطبة
الحمد لله العفو الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو البر الرحيم، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أعظم من عفا وخير من أحسن ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ ﷺ، وعلى آله وصحبه وأتباعه ذوي الخلق العظيم.
الخطبة الأولى
أما بعد، فأحسنوا – عباد الله – فإن غاية التقوى عفو وإحسان ﴿وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
أيها المؤمنون: إن من الخصال العظيمة التي تدل على تمكن الإيمان من القلب العفو، وما أدراك ما العفو! ومن أسماء الله الحسنى العفو، وإذا ما سأل الإنسان عن صفة الصبر وأثرها وجدها عند الذين يعفون عند المقدرة على العقوبة، بل يتجاوزون العفو إلى الإحسان إلى المسيء؛ ولذلك كان ثوابهم عظيما، وأجرهم جسيما؛ ففيهم يقول ربنا ﷻ: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، والعفو والإحسان إلى المسيء لا يوفق له ﴿إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ﴾، ولا يلقاه ﴿إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.
وتعالوا بنا – عباد الله – إلى الوقوف عند تلك الآيات البينات، ونرى ذلك التناسب العجيب بينها، فاسمعوا وعوا قول الله ﷻ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ | نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ | نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾.
وبعد ذكر الإيمان والاستقامة يذكر الله جل جلاله الدعوة إليه وعمل الصالحات؛ إشارة إلى أن ذلك من آثار الإيمان والاستقامة، فيقول الحق ﷻ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، ثم إن القرآن يذكر في هذا الموضع من العمل الصالح العفو ودفع السيئة بالحسنة، وهل ذلك إلا بيان للغاية في الإيمان والاستقامة! وهل ذلك إلا ذكر لرأس العمل الصالح.
ولا عجب – عباد الله – فإن هذه الأخلاق الكريمة والسجايا الحسنة ثمرات العبادات، وغايات «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا».
ألم يقل الله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، فالغاية من الصيام التقوى.
ألم يقل الله ﷻ: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾، فالغاية من الحج فعل الخير والتقوى وترك الأخلاق الشائنة.
ألم يقل الله ﷻ: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾، فالغاية من إقام الصلاة ترك الفحشاء والمنكر.
ألم يقل الله ﷻ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، فالغاية من الإنفاق والصدقة تطهير النفس من الشح والطمع المذموم.
وقد بين النبي ﷺ لأتباعه – عباد الله – هذه المعاني العظيمة والغايات السامية، فقال مخاطبا المؤمنين والمؤمنات: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له»، وقال عليه الصلاة والسلام: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».
وقال ﷺ: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه».
ومن حسن هذا الخلق ومنزلته أن القرآن الكريم ذكره مرات في أحوال مختلفة ومناسبات متعددة، في الإساءة الكبيرة وفي الإساءة الصغيرة، وأي إساءة أكبر من قتل النفس التي حرم الله! إلا أننا نجد القرآن الكريم بعد ذكره القصاص وأحكامه يختم ذلك بذكر هذه الفضيلة الجليلة، والخصلة الكريمة، فيقول: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
وهنا أيضًا: خطبة عن التسامح والعفو «مكتوبة وجاهزة»
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، ﷺ، وعلى آله وصحبه وأتباعه الغر الميامين.
أما بعد، فاتقوا الله – عباد الله – واعلموا أن الذي لقيه النبي ﷺ من بعض أهله ومن كثير من قومه شيء عظيم من الأذى؛ فهم يؤذونه في نفسه وفي أتباعه قتلا وضربا وسبا وتعذيبا في ألوان وأشكال متعددة، بل إنهم يؤذونه وهم في وطنه، ويحرصون أن يمنعوه من الخروج والابتعاد عنهم، فأي إيذاء أعظم من هذا الإيذاء!
وحسبنا تلك الصورة التي تصور مكرهم الذي لا ينتهي عند عزم النبي ﷺ على الهجرة والابتعاد عنهم، والتي سجلها القرآن الكريم؛ لتكون شاهدا على أكبر أنواع الكيد والمكر بخير مخلوق في الوجود، وشاهدا لذلك النبي الكريم على أعظم عفو وإحسان للمسيء، يقول الله ﷻ: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
فماذا كان بعد أن أظفره الله عليهم؟ وقف النبي ﷺ وهم ينظرون إليه، فقال لهم: «ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم! والعجيب – أيها المؤمنون – أن أهل مكة الذين آذوه يعلمون علم اليقين أن أخلاقه لم تتغير، وصفاته لم تتبدل! فما كان عليه من عفو وكرم وإحسان وصدق وأمانة بقي عليه، وكيف لا يبقى عليه وهو رسول الله! فقال النبي ﷺ قولته المشهورة التي سارت مثلا إلى يوم يبعثون: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
ونترككم ونترك لكم اقترحًا أخيرًا؛ وهو: خطبة قصيرة عن السفر وآدابه وسننه