عناصر الخطبة
- الصحابة رضي الله عنهم الذين تربوا في مدرسة النبوة ضربوا أروع الأمثلة في التعفف عن الحرام والابتعاد عن المعاصي.
- العفة والنزاهة صنوان لا يفترقان وهما من أخلاق المؤمنين.
- العفة صفة راسخة من صفات المتقين المخبتين.
- الأثار الإيجابية للنزاهة والعفة تدعو الناس إلى سلوك الطريق القويم.
الخطبة الأولى
يتمتع المؤمنون بصفات أخلاقية نبيلة تنبع من إيمانهم بربهم، وتمسكهم بدينهم، واتصافهم بصفة التقوى في قلوبهم، فمتى كان المؤمن قوي الإيمان ظهرت هذه الأخلاق في حياته وتصرفاته، وهذه الأخلاق ليست مجرد شعور داخلي في النفس، بل لها ثمرات تظهر في أقوال الناس وأفعالهم، والانتماء إلى هذا الدين العظيم وإلى رسالة نبينا ﷺ يدعو إلى التزام هذه الأخلاق الكريمة، قال رسول الله ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» ← رواه البيهقي.
ولعلّ من أجلِّ هذه الأخلاق النبيلة التي تدعو إلى نبذ سفاسف الأمور والعناية بأعاليها، اتصاف المؤمنين بالعفة والنزاهة، فيصبح المؤمن نزيه النفس، عفيف اليد واللّسان، فيضبط تصرفاته بحكمةٍ بالغة وميزان دقيق، مما يعزز هذه القيم في المجتمع ويعمل على تنميتها امتثالا لقول الله ﷻ: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6].
فالذي يعفّ نفسه عن الحرام يبتعد عن أخذ ما ليس من حقّه، ولا يسعى إليه بطرق غير مشروعة، بل يكون ممتثلاً لأمر الله ﷻ بترك الحرام والكفّ عن أكل المحرمات، ففي الحديث الشريف بيّن النبيّ ﷺ المنهاج القويم للنزاهة، فقال: «ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفّه الله» ← متفق عليه.
فالله ﷻ يرزق العفيف بما يكفيه عن الحرام، ويغنيه عن سؤال الناس إذا صدقت نيته واعتصم بأمر الله ﷻ، قال الله ﷻ: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ [البقرة: 273]. جاء في التفسير أي يحسبهم الجاهل بحالهم أغنياء؛ لتركهم التعرض لما في أيدي الناس صبراً منهم على البأساء والضراء، وقناعتهم بما في أيديهم، فالعفة عن الشيء تركه.
وقد مدح النبيُّ ﷺ اليدَ العفيفة التي تعمل بكد واجتهاد فتأكل مما تكسب، ثمّ تكون نافعةً لغيرها، كما في الحديث الشريف عن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبيّ ﷺ، قال: «اليدُ العليا خيرٌ من اليدُ السفلى، ولْيبدأ أحدُكم بمنْ يعول، وخيرُ الصدقةِ ما كان عن ظهر غِنًى، ومن يستغنِ يُغنِه اللهُ، ومن يستعففْ يعفَّه الله» ← رواه أحمد.
والعفّة تربي الإنسان بحيث يكون فرداً نافعاً في مجتمعه، مما يشيع مكارم الأخلاق والسلوك الرفيع في المجتمع، وهي مطلب إيمانيّ لا يتخلى عنه المسلم في عباداته ومعاملاته.
والتعفّف له صور كثيرة: منها العفّة عن الكسب الحرام، قال ﷻ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]، وعفّة اللّسان عن الفحش والكلام البذيء أو الطعن في أعراض الناس أو النيل من أشخاصهم، فكان دعاء إبراهيم عليه السلام {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84].
والعفة في المجالس عن الغيبة والنميمة والإفساد بين الناس، وعدم نقل ما يتسبب في الخصومات بينهم، قال ﷻ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
والمسلم يتحرى العفّة في التعامل مع الجيران والأقارب والزملاء في العمل والوظيفة، بحيث يحفظ العفيف أسرار الناس، ويكون ذا نزاهة في التعامل معهم، ومنها العفّة عن النظر إلى ما حرمه الله من العورات، فقد كان العرب في جاهليتهم يتحلون بمثل هذه المكارم يقول أحد شعرائهم:
وأَغُضُّ طرفي ما بدَتْ لي جارَتي
حتى يُواري جارتي مأْواها
والمحافظة على العفة بصورها المتنوعة من علامات كمال إيمان المسلم وتمسكه بأحكام الشريعة السمحة، وهي كذلك أسباب لأمن المجتمع وأمانه، كما أنها تنمي في الإنسان قوة ترشده إلى اتباع الخير والصواب وتحثه على نبذ الأهواء والشهوات، وتمنعه من الاعتداء على الآخرين.
والعفة والنزاهة مظهران يدلان على طويّة نقية وسيرة حسنة ومعدن أصيل، وهما بذلك مطلبان أساسيان في المعاملات المجتمعية التي تبرز الصورة الحسنة في أزهى معانيها، وهما من علامات النّبل والمكانة السامية، وقد قيل: لا ينبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان: العفة عن الناس، والتجاوز عنهم.
ومن المظاهر الإيجابية التي يتحلى بها المؤمن الذي يتخلق بالعفة والنزاهة أنه لا ينظر إلى ما في أيدي الناس، ويكون حليماً عليهم، شفوقاً بهم، متجاوزاً عن إساءتهم، لا يعتدي ولا يخاصم، فيكون من عقلاء الناس وكرمائهم لما يمتاز به من القناعة والمروءة، وقد قال أهل الحكمة: إذا اجتمعت الشجاعة مع العفة أنتجت إنكارَ الفواحش، والغيرَة على المحارم.
عبادَ الله.. النزاهة تسمو بالفرد والمجتمع، إذ هي إصلاح في الأرض، ومجانبة للفساد والإفساد، قال الله ﷻ: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] كما قال أيضًا: ﴿وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون﴾ [البقرة: 11].
والإصلاح في أعلى مراتبه لا يتحقّق إلا بمن تنزّه عن فساد النية والطّويّة، وكان على درجة من العفة في اليد واللسان، وقلبه سليماً مع الناس جميعاً، وسلم من أمراض القلوب التي تبقى مع الإنسان حتى بعد موته، قال الله ﷻ: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء].
والعفة صفة من صفات أهل الجنة، فقد جاء في الحديث عن النبي ﷺ قال: «وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مُقْسطٍ متصدقٍ موفقٍ، ورجلٌ رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفّف ذو عيال» ← رواه مسلم.
فهذه المرتبة الرفيعة التي ينالها العفيف جزاء له على حسن عمله وخلقه، وهي دعوة نبوية إلى الحرص على هذا الخلق النبيل. قال رسول الله ﷺ: «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ» ← رواه ابن ماجه.
⬛️ وهذه أيضًا: أقوى خطبة عن النزاهة ومكافحة الفساد – مكتوبة
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} آل عمران:102.
عباد الله: إنّ العفة خلق مطلوب دينياً واجتماعياً، فينبغي للمسلم أن يصون نفسه عن التهمة، وأنْ يجنبها مواضع الشّبهة، حتى إذا وفقه الله ﷻ وأصبح عنصرًا مؤثرًا في مجتمعه كان نزيهَ القلب والفؤاد، فلا يغشّ ولا يؤذي ولا يعتدي.
ومتى قصر الإنسان بالالتزام بهذه الأخلاق أوقع في نفسه وسمعته، فإن الناسَ إنما يتذكرون النزيه العفيف فيمدحونه، ويذكرونه بالخير في حياته، وبالخير بعد مفارقته الدنيا.
والعفة والنزاهة صنوان لا يفترقان، وهما ثمرتان يانعتان يقطفهما المسلم فيورثان راحة البال والطمأنينة والبعد عن المهالك التي قد تترتب على اتباع الأهواء وإيذاء الآخرين في أعراضهم وأموالهم، ورحم الله عبداً كان عفيفاً قنوعاً بما آتاه الله نزيهاً عن كلّ الشبهات والآثام.
والعفة تدعو إلى الاستقامة والامتثال لأمور الشريعة الغراء، بعيداً عن المنكرات وفعل ما يغضب الله ﷻ، وإنّ العفة والنزاهة لا يجتمعان في إنسان إلا كان من أهل القَبول في الأرض، قال ﷺ: «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ» ← رواه ابن ماجه فيحبه الله ﷻ ويحبه العباد، كما أنّ العفة من شيم العقلاء النبلاء.
والعفة خلق عام يشمل كل فرد من أفراد المجتمع، ويشمل النساء فإنهن شقائق الرجال، فالعفيفات المتعففات لهنّ من الأجر والمثوبة عند الله ﷻ ما يجعلهنّ في واسع الجنات، فالعفيفة التي لا تخرج من بيتها إلا وهي حريصة على نفسها، حريصة على إيمانها وتقواها، تكون من المقربات عند الله ﷻ، وتكون عنصراً قوياً مكملاً للرجل في المجتمع.
قال الله ﷻ ضارباً مثلا في العفة ببنت سيدنا شعيب عليه السلام: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25]
والمرأة العفيفة من شأنها أن تسير في هذه الحياة مؤازرة لزوجها فيما قد يعرض لهما من مصاعب، بل تصبر إذا وقعت لهما ضائقة حتى يأتيهم الفرَج من أبواب الرزق الحلال، وتكون قنوعة راضية بما قسمه الله ﷻ، وهي بذلك تطلب رضوانَ الله ﷻ، وبعفتها ونزاهتها تسعى لإنشاء جيل قوي ملتزم بالأخلاق القويمة، لينفع أمته ووطنه والناس أجمعين، ويكون لبنة قوية في البناء الحضاري، فالمرأة في المجتمع المسلم هي الأم والأخت والزوجة والبنت، وهي تشكّل أساساً راسخًا في نشر العفة والنزاهة ومعاني الإيمان والأخلاق النبيلة.
والحمد لله ربّ العالمين..