اليوم أسوق لإخواني من الأئمة والخُطباء الأكارم خطبة مشكولة قصيرة عن العشر الأول/الأوائِل من ذي الحجة؛ تحت عنوان «لَيَالٍ عَشْرٌ وَأَيّامٌ مَعْلُومَاتٌ». أسأل الله العظيم ﷻ أن ينفعنا وإياكم بما جاء بها.
مقدمة الخطبة
الحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَ لَيَالِيَ عَلَى لَيَالٍ وَأَيَّامًا عَلَى أَيَّامٍ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، ذُو الفَضْلِ وَالإِنْعَامِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَعْبَدُ الخَلْقِ وَأَزْكَاهُمْ نَفْسًا، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَى ذِي الجَلالِ وَالإِكْرَامِ، ﷺ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَتْبَاعِهِ المُهْتَدِينَ الكِرَامِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- فَإِنَّ فِي التَّقْوَى الفَلاحَ، وَاسْمَعُوا وَصِيَّةَ رَبِّكُمْ، فَفِي سَمَاعِهَا وَالعَمَلِ بِهَا غَايَةُ النَّجَاحِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
الخطبة الأولى
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ؛ إِنَّ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى النَّاسِ أَنْ جَعَلَ لَهُمْ مَوَاسِمَ تَفْرَحُ فِيهَا قُلُوبُهُمْ، وَتَتَحَرَّكُ فِيهَا نُفُوسُهُمْ، فَتَجِدُ مُسَارَعَةً فِي الخَيْرَاتِ، وَمُسَابَقَةً فِي عَمَلِ الصَّالِحَاتِ؛ فَيَتَنَبَّهُ الغَافِلُ، وَيَنْشَطُ المُتَثَاقِلُ، وَيَتَذَكَّرُ المُؤْمِنُ تَذَكُّرَ مَنْ تَنْفَعُهُ الذِّكْرَى قَوْلَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ | الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ | وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
وَتَكُونُ النُّفُوسُ فِي تِلْكَ المَوَاسِمِ – عِبَادَ اللهِ – أَقْرَبَ إِلَى اللهِ، وَتَصِيرُ الأَرْوَاحُ أَكْثَرَ تَعَلُّقًا بِاللهِ؛ كَيْفَ لا! وَالقُلُوبُ تَزْدَادُ هُدًى وَإِيمَانًا، وَلَكَأَنَّ الإِنْسَانَ يَرَى رَأْيَ العَيْنِ مَا أَخْبَرَ بِهِ المَوْلَى عَنِ المُهْتَدِينَ بِقَولِهِ: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾، وَيَشْعُرُ بِمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ المُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾، فَيَنْطَلِقُ المُؤْمِنُ فِي مَيَادِينِ الخَيْرَاتِ، فَلا يَتْرُكُ بَابَ خَيْرٍ إِلاَّ وَلَجَ مِنْهُ، وَلا يُفَوِّتُ عَلَى نَفْسِهِ مَعْرُوفًا إِلاَّ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهُ؛ فَمِنْ تَطْهِيرٍ لِلْقَلْبِ وَتَوْبَةٍ نَصُوحٍ إِلَى صَلاةٍ وَصِيَامٍ وَإِعَانَةِ مُحْتَاجٍ وَتَيْسِيرٍ عَلَى مُعْسِرٍ وَتَفْرِيجِ كُرْبَةٍ وَقَوْلٍ حَسَنٍ لِلنَّاسِ، قُدْوَتُهُ فِي ذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ وَالمُرْسَلُونَ المَوْصُوفُونَ بِقَوْلِ اللهِ جَلَّ جَلالُهُ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا؛ إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ تِلْكَ المَوَاسِمِ وَأَعْلاهَا مَقَامًا عِنْدَ اللهِ هَذَا المَوْسِمَ الَّذِي تَسْتَقْبِلُونَهُ، مَوْسِمَ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ؛ فَلَيَالِيهَا أَقْسَمَ اللهُ بِهَا فَقَالَ: ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾. وَمَا أَقْسَمَ اللهُ بِهِ فَهُوَ عَظِيمٌ، وَأَيَّامُ هَذِهِ العَشْرِ هِيَ الأَيَّامُ المَعْلُومَاتُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ أَيَّامَ ذِكْرٍ فَقَالَ: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾، وَإِنَّ هَذَا الذِّكْرَ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ المَعْلُومَاتِ ثَمَرَةُ عَدِّ الإِنْسَانِ نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ، وَمَا أَكْثَرَ نِعَمَ اللهِ عَلَى الإِنْسَانِ! وَمَاذَا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ وَمَاذَا يَتْرُكُ مِنْهَا! لا شَكَّ أَنَّهُ سَيَقِفُ وُقُوفَ المُسْتَيْقِنِ تَمَامَ الاسْتِيقَانِ مِنْ حَقِّ قَوْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، نَعَمْ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، عَلَى التَّقْصِيرِ، فَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ أُوْتِيَ الإِنْسَانُ وَنَسِيَ ذِكْرَ اسْمِ اللهِ عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى النَّاسِ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾.
وَإِنَّ مِنْ أَوْجَبِ الوَاجِبِ عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَجْلِسَ إِلَى نَفْسِهِ وَيُذَكِّرَهَا بِنِعَمِ اللهِ عَلَيْهَا؛ لِيَذْكُرَ اسْمَ اللهِ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ، وَإِنَّ هَذَا المَوْسِمَ مِنَ المَوَاسِمِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ فِيهَا الإِنْسَانُ بِهَذِهِ العِبَادَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي كَادَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَنْسَاهَا؛ فَقَدْ جَاءَتِ الإِشَارَةُ إِلَيْهَا فِي القُرْآنِ، فَقَالَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾، لِيَكُونَ بَعْدَ الذِّكْرِ الشُّكْرُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الشُّكْرُ! شُكْرٌ بِإِعْطَاءِ النَّفْسِ حَظَّهَا مِنْ تِلْكَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَذَلِكَ نِصْفُ الشُّكْرِ، وَالنِّصْفُ الآخَرُ يَتَحَقَّقُ بِتَحَسُّسِ حَاجَةِ المُحْتَاجِ وَعَوْنِ الأَخِ أَخَاهُ، يَقُولُ اللهُ جَلَّ جَلالُهُ: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾، وَهَلْ عَاقِبَةُ الشُّكْرِ إِلاَّ الزِّيَادَةُ ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً﴾، يَقُولُ اللهُ جَلَّ جَلالُهُ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيمُ.
وهنا لكم: خطبة عن العشر الأوائل من ذي الحجة وأفضل الأعمال خلالها.. مُلْهِمة
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ﷺ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاعْلَمُوا أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ قَدْ أَرْشَدَنَا إِلَى فَضْلِ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ، وَدَعَانَا إِلَى عَمَلِ الصَّالِحَاتِ فِيهَا، وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ العَمَلَ الصَّالِحَ؛ لِيَكُونَ البَابُ مَفْتُوحًا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ العَالَمِينَ، فَمَا مِنْ إِنْسَانٍ إِلاَّ وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُ سَبِيلًا إِلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ، فَطُوبَى لِمَنْ عَمِلَ صَالِحًا، وَطُوبَى ثُمَّ طُوبَى لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ لِفِعْلِ أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ لا عَمَلٍ وَاحِدٍ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ»، يَا لَهَا مِنْ بِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُضَاعِفَ أُجُورَهُ، وَيَرْفَعَ دَرَجَاتِهِ وَيَحُطَّ سَيِّئَاتِهِ.
وَإِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ المَعْلُومَاتِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ عَرَفَةَ! فِيهِ تُرْفَعُ الدَّرَجَاتُ وَتُحَطُّ الخَطَايَا وَتُغْفَرُ السَّيِّئَاتُ، وَتُجَابُ الدَّعَوَاتُ؛ أَلَيْسَ هُوَ اليَوْمَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، وَمِنْ فَضْلِ هَذَا اليَوْمِ العَظِيمِ أَنَّ صِيَامَهُ يُكَفِّرُ سَنَةً مَاضِيَةً وَسَنَةً بَاقِيَةً، فَمِنْ بِشَارَةِ النَّبِيِّ ﷺ لِلأُمَّةِ قَوْلُهُ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ».
هذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ الأَمِينِ، فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ بِذَلكَ حِينَ قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
ولا تفوتكم أيضًا هنا: خطبة عيد الأضحى المبارك مكتوبة.. بليغة وقوية