حُدِّدت خطبة الجمعة القادمة، وجاءت بعنوان (مفهوم العرض والشرف). وسوف نتطرَّق هنا لتقديم الخطبة “الغير رسميَّة” لكُل من يُريد إثراء معلوماته وإنعاش ذاكرته قبل صدور الرَّسميَّة.
مفهوم العرض والشرف
الحمد لله وحده باسط الأرض ورافع السماء، من خلق آدم وعلمه الأسماء، ورزقه السعادة وجره هواء إلى الشقاء، والحمد لله الذي ما ابتلى بالداء إلا وقد جعل له دواء،
والصلاة والسلام على سيد الخلق وإمام الأنبياء، وتاج الصالحين، وغرة الأتقياء، من تحل بذكره البركة وتفتح له أبواب السماء، ويستجيب الله بفضل الصلاة عليه لكل دعاء، وعلى آله الأنقياء وصحبه المخلصين والصالحين والداعين إلى هديه والسارين في الظلمات على نهجه، والناجين من الفتن بفضل اتباعه، وعلى من اقتدى بهم وتبع طريقهم إلى يوم الين ثم أما بعد ..
نحمد الله أن قدر لنا البقاء وكتب لنا ولكم اللقاء في بيت من بيوته، وجمعنا على طاعة من أحب الطاعات إليه، ووفقنا وإياكم إلى ذكره، وها نحن نلتق مجدداً في يوم من أيام الجمعة المباركة نتحدث فيها عن معنى عظيم تقدسه شريعتنا الغراء، وترعاه أيما رعاية وتعلي قيمته وتدعو إليه وتسعى للحفاظ عليه، عن (مفهوم العرض والشرف) سوف يكون حديثنا، وعن نظرة الإسلام إليهما سوف يدور كلامنا، فاسمعوا وعوا رحمكم الله.
إن الشريعة الإسلامية حين جاءت من لدن رب البرية لتنقذنا من براثن الجهل وظلمات الغطرسة جاءت تحمل لنا مقاصد معينة، ومبادئ ثابتة تبين الغث من الثمين، ترفع بعض القيم وتحط بعضها، وتؤيد بعض الأخلاق والسجايا وتذم بعضها، فجاءت متكاملة تتوج قداسة الإنسانية وتتم معانيها وترقى بمفهومها ومضامينها، فأعلت قيمة العرض ومكانته، وأثنت على الشرف والمروءة والمتلبسين بهم، ودعت إلى كل فضيلة من شأنها أن تعزز الشرف وترقى به، ونهت عن كل رزيلة من شأنها أن تمس العرض أو تنال منه.
وقبل أن ننساق في حديثنا عن تعاليم الإسلام التي تعزز حماية الأعراض وترقى بكل معاني الشرف وصوره، فيجدر بنا أن نبين مفهوم العرض وما تتضمنه تلك الكلمة وما ترمي إليه.
كلمة “عرض” بكسر العين مفرد “أعراض” تعني في اللغة العربية البدن، والنفس، كما تطلق على ما يمدح به المرء أو يذم سواء كان في نفسه أو أهله أو سلفه أو ما يخصه من سائر أمره، كذلك يطلق العرض على الحسب والنسب، ويراد به أيضا الشرف والعزة.
يقال: لاك فلان أعراض الناس أي خاض فيهم وذكرهم بما يعيبهم، ويقال نقي العرض أي بريء من أن يشتم أو يعاب، كما يقال : مزق عرضه أو نهش عرضه أي أغتيب وشتم وطعن فيه.
ومن كل المعاني والأمثلة السابقة نستنتج أن عرض الإنسان هو سمعته وشرفه وسيرته، وكل ما يخصه من أهله ونسبه وحسبه، ولقد جاء الشرع الحنيف بكل ما يحمي العرض ويزود عنه ويدفع عن الإنسان السوء أو المهانة أو الغيبة أو ذكره بالسوء وإن كان فيه، كما عظم اتهام المرء لأخيه بما ليس فيه، ولعل المتأمل في شريعتنا ومبادئها ومقاصدها يتبين له أن حماية الأعراض أحد مقاصدها الأساسية ومبادئها الأولية التي تدعوا إليها وتقوم عليها.
يأتي مقصد حماية العرض وصيانته ضمن المقاصد الضرورية للشريعة الإسلامية التي تأتي مع حماية النفس والمال والعقل، لذا فإن الشريعة أولت هذا الأمر اهتماماً وعناية خاصين وبالغين واتخذت حماية العرض في الإسلام طرقاً عديدة ومناهج كثيرة، وقواعد صارمة وأصولاً لا ينبغي تخطيها ولعل من أهمها ما يلي:
النهي عن اللمز والغمز والخوض في الأعراض
توعد الله الهمازين واللمازين الذين يتهامسون في أعراض الناس، وينالون منهم وينهشون فيهم من وراء ظهورهم دون سند من صحة أو دليل على إثم بالويل، والويل هو مكان في جهنم من أحط أماكنها وأبشعها، يقول عز وجل في محكم التنزيل” وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1)” ، وقد جاء في تفسير الآية الكريمة قصيرة المبنى خطيرة المعنى أن الويل هو الوادي يسيل من صديد أهل النار وقيحهم، وكل همزة هو كل مغتاب لغيره، واللمزة هو من يعيب الناس ويطعن فيهم، فهذا التوعد يحمل المسلم الذي يخشى سوء العاقبة على التوقف عن الحديث في عرض غيره من الناس والكلام بما يكرهونه عنهم وفيهم.
ويقع تحت نفس الأمر الغيبة والنميمة والتي ورد الكثير من الأثار في الكتاب والسنة في النهي عنها والتنفير منها فيقول جل وعلا في بعض مواضع القرآن الكريم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12))، ففي تشبيه الغيبة بأكل لحم الإنسان وهو ميت إشعار خطير بجرم الغيبة وبشاعتها وسوء مرتكبيها، أما السنة النبوية فقد جاء فيها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ( أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته). رواه مسلم.
النهي عن السخرية من الآخرين
كذلك نهى الإسلام عن سلوك السخرية ، واعتبر مجرد السخرية من إنسان والتحدث عنه أو إليه هو درب من الذنب والوقوع في الاثم والانتهاك لإنسانيته والجور على حقوقه فقال جل وعلا في هذا المعنى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)) فهذا نهي صريح عن التحدث عن الغير أو إليه بما يحمل له إهانة أو قدحاً أو غيره.
تحريم الزنا، وتحريم رمي المحصنات
من الأحكام والتشريعات التي تعكس بوضوح كبير رعاية الإسلام لكل ما من شأنه أن ينتهك الأعراض أو يلوثها أو يقدح في سلامتها والحكم المشدد بتحريم الزنا واعتباره ضمن كبائر الذنوب والمعاصي التي ما أن يقع فيها المسلم حتى يكاد يقع في الهلاك، ويكاد يرد موارد الغضب الرباني والعقاب الإلهي الصارم، وليس أدل على ذلك من قوله عز وجل : (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32))، وحث على التعفف وأمر النساء بالستر والاحتشام وحث على غلق كل باب يؤدي إلى تلك الفتنة المهلكة، فنهى عن التبرج والخضوع بالقول، ومخالطة الرجال بلا ضرورة، ثم أمر بالإسراع إلى الزواج وتحصين النفس به، وأمر ولاة الأمور بتيسيره وعدم التشدد أو المغالاة فيه، صوناً للشباب من الوقوع في الفاحشة وعفة للبنات وستراً لهن وصيانة لأعراضهن الطاهرة.
ثم بعد أن أمر بكل ذلك ووضع قواعد صيانة الأعراض وتحصينها من الخوض أو الانتهاك أو نحوه مما يكره الله ورسوله لنا، شرع في ذم هذه النوعية من الناس التي يستهويها الخوض في الأعراض وتوزيع الاتهامات بلا ضابط ولا رابط، ورمي المحصنات الغافلات الطاهرات بلا دليل ولا حجة، فقال عز وجل في كلمات تكاد تشيب لهولها الولدان: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)) فما أعظمه من ذنب وما أبشعه من جرم ذلك الذي يستوجب لعنة الله ويحكم على صاحبه بالعذاب في الدنيا والآخرة.
ولم يقتصر الأمر على مجرد نهي قرآني عظيم الخطر كهذا النص الذي بين أيدينا بل تخطاه فوضع الشارع عقوبة لمن يقع في هذه الجريمة، وهذه العقوبة هي الجلد يقول الله عز وجل في بيان تلك العقوبة: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى أزواجه وصحبه ومن والاه ثم أما بعد:
ولعل من صور انتهاك الأعراض المنهي عنها أيضاً، والتي ابتلينا بها في زمان الانفتاح والتواصل المتاح ترديد الشائعات دون دليل، أو برهان وتناقلها دون تدبر لخطورتها أو خوف من عواقبها الوخيمة علينا وعلى مجتمعاتنا بأسرها، وقد نهانا الله عز وجل عن ذلك وعاب من يقوم به أو يفعله في كل زمان ومكان، فكان قوله المنزل في حادثة الإفك (لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12)، ويقول في موضع آخر حول نفس المعنى: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)).
فهذا ينطوي ضمنياً على معنى النهي عن مجاراة الخائضين في الأعراض، وترديد ما يقولونه دون تثبت أو تحقق، لما في ذلك من الشر المستطير على من يقع ضحية للخوض في الأعراض وعلى من يرتكب تلك الجريمة في آن واحد، وعلى سلامة النشء والمجتمعات.
وأخيراً النهي عن تتبع العورات والتجسس
يقول الله عز جل في موضع النهي عن سيء الأخلاق وأقبحها من الغيبة والنميمة والخوض في أعراض الناس: (ولا تجسسوا)، وفيه نهي عن التجسس الذي ينطوي على معنى تتبع العورات وطلب الزلات، وفي ذلك يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يُفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحْه ولو في جوف رحله) رواه الترمذي.
أما مفهوم الشرف فهو مرادف للعرض ومتمم له ويقصد به السمعة والسيرة بين الناس، وما يجمعه المرء من مكارم الرفعة والعزة مما يصون نفسه وأهله ومن يخصه من الذم بما يعاب به، فالمسلم في هذا الأمر مطالب أن يجتنب كل ما ينافي الكرم والمروءة وطيب الذكر من الوقوع في المعاصي أو ارتكاب ما يشين الإنسان من الذنوب أو الأفعال أو السفاهات أو غيره، حتى يستبرئ لنفسه وعرضه، فقد علمتنا الشريعة الغراء أن من وضع نفسه موضع الشبهات فلا يلومن إلا نفسه، ومن سمح لنفسه أن يرتكب ما يجعله فريسة تلوكها الألسن وتخوض فيها الأفواه فلا حق له على أحد وإنما جر ذلك على نفسه.
ومن جهة أخرى فليمسك عليه لسانه وليدع الخالق للخاق، ولا يحمل نفسه من ذنوب الخلق ما لا طاقة له به.
وفي الختام نسأل الله عز وجل أن يسبل علينا ستره، ولا يجعلنا ممن يكثر الكلام فيهم أو يكثرون الكلام في غيرهم.