خطبة اليوم تحمِل عنوان: الصدق في الأقوال والأفعال والهمم. نعطيكم الخطبة حتى نعمل على تنشيط ذاكرتكُم وتحفيز معلوماتكم، مما سيكون له دور في تقوية الخطبة لديكم.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين، الذي بعث فينا رسولاً من أنفسنا، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، والحمد لله أن جعلنا في زمرة عباده وقدر لنا أن نكون من المؤمنين به والحاملين للواء الإسلام ورايته، فأعزنا به وألبسنا حلته، والصلاة والسلام على حبيبه ونبيه وصفيه من خلقه، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
الخطبة الأولى
فإن لكل شيء دعائم وأركان وأسس لا يستقيم بدونها ولا ينبني إلا عليها، وهكذا شريعتنا الغراء وديننا الحنيف قام على أسس وركائز لا يمكن أن يكتمل بدونها ولا يستقيم بنيانه في غيابها، ركائز أخلاقية ودعائم سلوكية هي الأساس في صلاح الأمر أو فساده.
ولعل على رأس تلك الأسس وفي مقدمتها الصدق في مفهومه المجمل والمفصل، فهو أساس العقيدة وجوهرها ودعامتها، والصدق لا يراد به صدق القول فقط ومطابقته للواقع بل يراد به نطاق سلوكي وأخلاقي أوسع بكثير يشمل (الصدق في الأقوال والأفعال والهمم).
فقد أولت شريعتنا الغراء موضوع الصدق اهتماما كبيراً وحضت عليه في مواطن عدة بشتى صوره ومعانيه، ولعل المتبحر في الكتاب والسنة يستطيع العثور على الكثير من مواضع مدح الصدق والحض عليه وذم الكذب والتنفير منه.
ففي معرض الحديث عن الصدق في القول والحض عليه وذم ما سواه يقول نبينا الكريم “ﷺ” في حديث يرويه ابن مسعود “رضي الله عنه”: ( عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وإِيَّاكُمْ والْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)، فلو تأملنا الحديث لعلمنا أهمية الصدق وعاقبته الطيبة، ولعرفنا أيضا خطورة الكذب والاستهانة به وعواقبه الوخيمة التي تجر المرء إلى هلاك محقق في الدنيا والآخرة.
ولا عجب فإن الصدق هو الملزم لصاحبه الحامل على الطاعة والدافع عن الشر والوقوع في الاثم، فمن لا يحترف الكذب لا يجد له مخرجاً من المعصية ولا سبيل لديه إلى الفرار من العقوبة، فتجده يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على ارتكاب الذنب أو اقتراف الجرم، بينما محترف الكذب حججه دائما قائمة وعذره مبسوط ورواياته الملفقة لا تنفد، يرتكب الاثم ولا يبالي يخطط للكذب كمخرج من الموقف كما يخطط لاقتراف الذنب، وغالباً ما يفلح ويملك من الحجج الدامغة ما ينقذه من العقاب وما يمكنه من الإفلات من جزائه.
لذلك فإن النبي “ﷺ” أثبت صفة الإيمان للمؤمن حتى في لحظات ارتكاب الخطأ أو الذلل بينما نفى عنه الإيمان حال التلبس بالكذب، وكأن الكذب والإيمان ضدان لا يجتمعان، فقال حين سأله عبد الله بن جراد “رضي الله عنه” : ” يا نبي الله ، هل يزني المؤمن؟ قال: ( قد يكون من ذلك )، قال : يا رسول الله، هل يسرق المؤمن؟ قال: ( قد يكون من ذلك )، قال: يا نبي الله هل يكذب المؤمن؟ قال: (لا)، ثم أتبعها رسول الله “ﷺ” فقال هذه الكلمة: (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون).
هذا عن صدق القول والنقل فقد نهى نبينا “ﷺ عن الكذب ولو على سبيل المزاح، وضيق دائرة جواز الكذب فجعله في أضيق الحدود ولأسباب وغايات عظيمة وفوائد لا تتأتى إلا معه.
فقال فيما روته أسماء بنت يزيد “رضي الله عنها”: (لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: الرجل مع امرأته لترضى عنه، أو كذب في الحرب فإن الحرب خدعة، أو كذب فيه إصلاح بين الناس) ولعله حتى في هذه الحالات البالغة الخصوصية فإن لجواز الكذب ضوابط وقيود صارمة ينبغي أن تراعى وأن لا يتخذ من هذا المسوغ زريعة للكذب بلا داع.
هذا عن السنة النبوية المطهرة أما القرآن الكريم فقد حوى بين دفتيه الكثير والكثير من المواضع والآيات الكريمة التي نحث على الصدق وتمدح الصادقين وتنهى عن الكذب وتنفر منه وتذم أهله، ولعل من بينها قول الله ﷻ في بعض آيات سورة التوبة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.
وعن جزاء الصادقين وحسن عاقبتهم وطيب مصيرهم يقول في سورة الزمر: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ).
هذا كله عن الصدق في القول والحديث أما صدق الأفعال فهو درجة أرقى وأعلى، وهو مقام العارفين والاتقياء والأنقياء والمخلصين، الصادقين في أفعالهم هم هؤلاء الذين يفعلون ما يقولون، ويلزمون أنفسهم بما يأمرون به غيرهم، ترى لهم وجها واحداً ومبدأ واحداً.
لا يحيرك فهمهم ولا يشق عليك تصديقهم ففي أفعالهم أدلة دامغة وحجج داحضة، ولعل ما يحملهم على ذلك ويدفهم إليه هو احترامهم لأنفسهم ولذواتهم وإخلاصهم في عبادة ربهم.
فهم لا يبتغون بقولهم رضا الناس ولا مدحهم فلا يخرج من ألستنهم إلا ما يوافق أفعالهم ولا يقطعون وعودا لا يملكون الوفاء بها وعن هؤلاء الصادقين يقول الله ﷻ: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ ففي الآية ربط كبير بين مقدمات الإيمان من إتيان الزكاة والصبر على القدر وبين تمام ذلك كله وموافقته للقول والذي يترتب عليه اتصافهم بالصدق وامتداحهم به.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى، شمس الضحى، وقمر الدجى، وأصحابه نجوم الهدى ومن بهم اهتدى، ثم أما بعد:
فنعود للحديث عن الصدق الذي يمثل ركنا ركينا من اكتمال الإيمان وتمامه، ومن صلاح النفس واستقامتها والذي يقضي بمدح صاحبه ووصفه بالخيرية والصلاح، ونؤكد أن الصدق في القول درجة من الصدق ونوع منه وأن الصدق في الأفعال هو الرقي في حد ذاته والسعي إلى كمال الخيرية وتمام الإيمان.
فالصادقون مع أنفسهم والواضحون الذين لا يخشون إلا الله ولا يبتغون النفع إلا عنده تجدهم بسلام وطمأنينة مدفوعين إلى الصدق في الأفعال ومطابقة أفعالهم وأحوالهم لما يجري على ألسنتهم.
فهنيئاً لهؤلاء مقام الصادقين والانضمام إلى صفوفهم والتمتع بما أعد الله لهم من الفضل العظيم والأجر الكريمٍ.
أما صدق الهمم فهذا درجته أرقى وأعلى وأشق على النفس من سواها، فصدق الهمم مفهوم ينطوي على صدق النية والعزم على الخير، وقوامها التقوى والثقة فيما عند الله، واختبار صدق الهمم يظهر في الخطوب وفي التزام السير على ما عزم عليه المرء مع وجود المشقة والكبد والعنت.
فمن يهاجر في سبيل الله تاركاً أمواله ودياره وموطنه هو مؤمن صدقت همته وقويت عزيمته فخالف هوى نفسه واختار ما يريد خالقه.
ومن يخرج مقاتلاً في سبيل الله يبغي بذلك تحقيق أحد الحسنيين النصر أو الشهادة، غير ناظر لسمعة ولا رياء ولا مدح، وغير قاصد لغنيمة أو مال يجمعه فهو صادق الهمة، لا يقدح في صدقه قادح ولا يشكك في همته أحد.
وقد امتدح الله ﷻ من الرجال من صدق الوعد والعزم والهمة فقال: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) فهؤلاء اطلع الله على صدقهم وأعد لهم من الجزاء ما يستحقون ورضي عنهم وأرضاهم.
خطبة الجمعة القادمة: الصدق في الأقوال والأفعال والهمم “PDF“
وفي الختام.. نسأل الله ﷻ أن يجعلنا من الصاقين أقوالاً وأفعالاً وهمماً، والمقربين والمتقين، وأن يجعلنا ممن يتبعون القول فيتبعون أحسنه إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم..
استقيموا يرحمكم الله وساووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة، واقيموا الصلاة.