في زمنٍ كهذا، اخترنا أن نوفر لكل إمام وخطيبٍ خطبة عن الصداقة والصحبة الصالحة وركائِز وأُسس اختيار الصديق الصدوق الصالح، الذي ينفعك في الدنيا والآخِرة.
ولا عَجَب، فإن ما نراهُ من مفاسد ومصائِب يسكبها صديق السوء على صديقه، يستوجب مِنَّا خُطَب جمعة كثيرة وليس خطبة واحِدة، يعمل فيها الخطيب على توعية الشباب والمراهقين، بل والآباء أيضًا على أهميَّة اختيار الصديق الصالح والانخراط وسط الصحبة الأخيار.
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله؛ -صلى الله عليه وسلم- تسليما كثيرا.
الخطبة الأولى
أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، أيها الأكارِم أبناء الكرام، كل مودة وكل صحبة وكل علاقة تنقلب إلى عداوة يوم القيامة، إلا المتقين. فكُن مع المتقين تصحبهم في الدنيا وفي الآخرة.
قال الله -جل جلاله- في سورة الزخرف {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ}. والأَخِلاَّء: أي الأصحاب.
قال رجلٌ لداود الطائي: أوصني. قال: اصحب أهل التقوى فإنهم أيسر أهل الدنيا عليك مؤنة وأكثرهم لك معونة.
بالفِعل؛ فهم لا يكلفونك كثير إلا ذِكرٌ صالح ووجه حسن. وينفعونك ويعينونك في كل أحوالك.
عباد الله؛ إنَّ كُلّ صداقة وكل علاقة مهما بلغت، يوم القيامة تنقلب إلى عداوة؛ إلا المتقين. يقول -تعالى- في سورة عبس {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ | وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ | وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}.
جاء في مسند الإمام أحمد -رحمه الله- تعالى، عن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال عليه الصلاة والسلام «إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى».
يقول أبو مالك: وفي ناحية القوم رجل أعرابي جاء البادية ليتعلم من رسول الله، فسمع هذا الحديث؛ هزَّه هذا الحديث هزًا، فجثى على ركبتيه، وألقي بيديه؛ قال: يا رسول الله صِفهم لنا.. من هؤلاء الذين سينالون هذا الشرف العظيم بين يدي الله يوم القيامة؟
يقول أبو مالك: فرأيت في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- البِشر. فرح النبي أن هذا الأعرابي الذي قدِم للمدينة يريد أن يصل لهذه المرتبة. فقال ﷺ «هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}».
هكذا بشَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء الذين اجتمعوا لله، لا لأجل نسبٍ ولا حسبٍ ولا مال.
اللهم أوصِلنا لهذه المراتب يا رب العالمين.
عِباد الله؛ إن الأخ الصالح التقي في الدنيا ينفع، وفي الآخرة يشفع، هو سِرُّك حين تفيض شكواك ولا تجِد إلا رجلٌ صالح تشتكي له، وسندك حين تنهار قواك، ودعوته سِراجٌ لك في ظُلمَةِ قبرك.
ذكر الإمام ابن الجوزي في كتاب [صِفة الصفوة]، قال: كان لرَجل يقال له أبو حمدون، صحيفة فيها ثلاثمائة من أصحابه؛ كان كل ليلة قبل أن ينام يُسَرِّج المصباح، ويُخرِج الصحيفة ويَدْعُو لهم واحدًا واحدا. فنام ليلة ولم يَدْعُو لهم، فقيل له في النوم: يا أبا حمدون لم تُسَرِّج مصابيحك الليلة.
فقام من نومه وأسرج مصباحه، وجاء بالقائمة فدعا لهم واحدًا واحدا حتى نفذ.
نعم؛ فهم في القبر أحوج إلى دعاء الصالحين؛ يدعون لهم. اللهم اجعلنا ممن تشملهم دعوات الصالحين في قبورهم يا رب العالمين.
عِباد الله؛ لو كان أحدٌ من يستغني عن الصحبة لاستغنى عنها أكمل الخلق -صلى الله عليه وسلم-. لكن اقرأ في سورة التوبة {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.
وقد أوصى الله رسوله ليصبر على صحبة الصالحين؛ فقال الله جل جلاله في سورة الكهف {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}.
نفعني الله وإياكم بهذا الكتاب العظيم.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكُم من كل ذنبٍ؛ ويا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي ألف بين قلوب المؤمنين؛ اللهم ألف بين قلوب المؤمنين في هذه الأزمنة التي تباعدت القلوب فيها واختلفت المصالح.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحق المتين، وليّ المؤمنين.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، قدوة المتقين؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، هذا توجيه نبويٌّ كريم لكل واحد منا، ولا نُغالِط أنفسنا أمام هذا التوجيه النبوي الكريم؛ لا تغالط نفسك.
إن هذا الذي يقوله عليه الصلاة والسلام هو أخبر الناس بالناس، وأصدق الناس مع الناس.
قال -صلى الله عليه وسلم-، كما في الحديث الذي صححه أهل العلم «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل».
لا تقول أنا أمشي مع هؤلاء الناس ولن أتأثَّر بأفعالهم الفاسِدة وأخلاقهم السيئة.
بعض الصالحين قال له ابنه يا أبتي أوصني؛ قال -ويُقال أنه الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما-: يا بني اصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدق قولك، وإن صلت شد صولك، وإن مددت يدك بفضل مدها، وإن بدت عنك ثلمة سدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتداك، وإن نزلت إحدى الملمات به ساءك.
هكذا ينبغي للإنسان أن يختار أصحابه كما يختار أنفَس ما يملِك.
عِباد الله؛ عظمت منزلة الصديق في الدنيا والآخرة. واقرأ قول الله -سبحانه وتعالى- وهو يحكي قول أهل النار وهم يصطرخون ويختصمون في نار جهنم، ويقولون {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ – وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}.
لأنهم يعلمون حق العلم يوم ذاك، أنه لو كان لهم صحبة من الأخيار المتقين لانتفعوا بهم، ولذلك يتحسرون وهم في نار جهنم على كل صحبة سيئة وكل رفقة باطلة تقودهم للفساد والشر.
الدعاء
اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد على كل حال.
اللهم نسألك أن تصلي وتسلم على حبيبنا خاتم الأنبياء، صلى الله وعلي آله وصحبه والتابعين وعلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنَّا معهم بمَنّك يا أرحم الراحمين.
اللهم نسألك عيش السعداء، وصحبة الأتقياء، ومرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء.
اللهم اجعل هذا البلد أمنا وإيمانا، رخاء وإسلاما؛ ادفع عن بلدنا هذا وسائر بلاد المسلمين الوباء والغلاء وكل بلاء يا رب العالمين.
اللهم آمِنّا في هذا البلد، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وفق ولاة أمرنا بتوفيقك، وخذ بناصيتهم للبر والتقوى يا رب العالمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا وبلاد المسلمين بمر فاجعل عاقبة مكرهم عليهم يا رب العالمين.
ربنا اغفر لنا ولآبائِنا وأزواجنا وذرياتنا وسائر قراباتنا. لا تدع لنا ولهم ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا كربًا إلا نفَّسته، ولا دينا إلا قضيته، ولا مريضًا إلا عافية يا رب العالمين.
اللهم يا مولانا، إنك تعلم أن لكل واحدٍ في نفسه حوائج لا يعلمها إلا أنت يا من يعلم السر وأخفى، فأنا نستعينك بقدرتك، ونسألك بعلمك، أن تلبي حاجاتنا في ما فيه مصلحة الدنيا والآخرة.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
← مُقترحَ: خطبة الجمعة عن الأمن والاستقرار وخطر التطرف والزيغ
خطبة عن الصداقة والصحبة الصالحة
ألقاها فضيلة الشَّيْخ هاشم باصرة؛ فجزاه الله كُلَّ خير.
عنوانها: الصداقة والصحبة الصالحة، وتأثيرها على المسلم دنيا وآخِرَة.
فحواها: أفاض الشيخ وأطنَب في موضوع اختيار الصديق والخليل في الدنيا، وكيف تكون الصداقة والصحبة الصالحة سببًا في النَّفع في الدنيا والغنيمة في الآخِرة.
استشهد الشَّيخ بآيات من القرآن الكريم، وبأحاديث للنبي -صلى الله عليه أفضل صلاة وأزكاها-؛ وكذلك بعض ما جاء عن السَّلف والتَّابعين حول الأمر.