الخطبة الأولى
الحمد لله..
إنَّ من أعظم النعم وأجلها بعد الإيمان بالله ﷻ نعمتي الصحة والفراغ وهما اللتان وصف النبي ﷺ من تركهما بأنه مَغْبُونٌ، قال رسول الله ﷺ «نعمتان مَغْبُونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» رواه البخاري.
وقد خصَّ النبي ﷺ هاتين النعمتين بذلك مع أن النعم كلها قد يُغبن فيها الناس، لأنّ الغبن فيها واضح وظاهر أكثر من غيرهما، ومعنى مغبونٌ فيهما الناس أنهم مخدوعون فيها لا يعرفون قيمتها في وقتها، وإنّما يعرفون قيمتها بعد فقدها وبذلك يقعون في الخسارة والندامة، قال ابن بطال في شرحه على البخاري: ( فيه تنبيه أمته على مقدار عظيم نعمة الله على عباده في الصحة والكفاية…. فمن أنعم الله عليه بهما فليحذر أن يغبنهما… فمن أنعم النظر في هذا كان حريًا ألا يذهب عنه وقت من صحته وفراغه إلا وينفقه في طاعة ربه، ويشكره على عظيم مواهبه والاعتراف بالتقصير عن بلوغ كنه تأدية ذلك).
وبدأ النبي ﷺ بنعمة الصحة، لأنها تجعل العبد نشيطاً في دعوته إلى الله ﷻ، فهي التي تُعين الإنسان على القيام بالعبادات البدنية المطلوبة منه، فقد شرط الإسلام الصحة للعديد من العبادات كالصيام، قال الله ﷻ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ البقرة: 184.
وكذلك الصلاة من عجز عن أدائها قائماً صلاها جالساً كما جاء في الحديث عن النبي ﷺ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» صحيح البخاري.
والحج كذلك لا يجب على العاجز عنه، قال الله ﷻ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ آل عمران: 97
ومع عِظم هاتين النعمتين إلا أننا نرى كثيراً من الناس لا يعرفون قدرهما وحقهما، فلا يستفيدون من هذه النعم ولا من تلك الأوقات الطويلة، إنما يُذهبون ذلك فيما لا خير فيه من لهوٍ ولعبٍ وإثمٍ ولا يتنبَّهون لقيمة الأوقات التي يهدرونها، فتضيع السنوات وتذهب أكثرُ الأنفاس، ويضعف الانسان وتفارقهم الصِّحة وتحلُّ بهم الاسقام، فإذا ما تذكروا ذلك حَزِنوا وتأسَّفوا، ولكنَّ هيهات للزمن أن يعود الى الوراء ليصلح الإنسان ما فاته أيام قوته وشبابه، فيردد قول الشاعر:
ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يومًا
فأخبِرُهُ بما صنعَ المَشيبُ
فعلى المسلم أن يحافظ على هذه النعم وأن لا يضيعها، وأن يستفيد من كل لحظة في حياته باغتنامها قبل فقدها، فما من صحيح إلا وسيمرض وما من قوي إلا وسيضعف ويعجز ولو بعد حين، قال الله ﷻ : ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ الروم: 54، وما من وقت فراغ إلا سيأتيه ما يشغله فإن لم تستغل وقت فراغك بالطاعة سوف تعض يديك ندماً بعد ذلك، ومن لم يستغل وقته بالطاعة شغله بغيره.
ما أحسنَ الشغلَ في تدبيرِ منفعةٍ
أهلُ الفراغِ ذوُو خَوضٍ وَإرجافِ
وقال رسول الله ﷺ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ» أخرجه الحاكم، فكيف بك إذا اجتمعت لك نعمتان الصحة والفراغ.
واعلم أيها المسلم أن الوقت الذي تعيشه إما لك أو عليك؛ فمن حافظ على وقته فقد فاز فوزاً عظيماً، ومن ضيّع الوقت خسر خسراناً مبيناً، وصدق منْ قال: الوقت ساعة فاجعلها طاعة، فلا يوجد وقت فراغ للمسلم أبداً فإن حياته كلها لله ﷻ، فإن فرغ من عبادة دخل في عبادة أخرى فعمله من أجل كسب معاشه ومعاش أولاده عبادة، والطالب في دراسته وجامعته في عبادة، وذكر الله ﷻ عبادة، والصلاة والسلام على النبي ﷺ عبادة، وإذا عجز عن العمل والذكر فمجرد التفكر عبادة، قال الله ﷻ ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ آل عمران: 191
فداوم على ذكر الله ﷻ وأكثر من الطاعات ولا تغفل عنه لحظة، لأنّ كل أعمالك لنْ تدخلك الجنّة إلا أن يتغمدك الله برحمته، قال ﷺ : «سَدِّدُوا وقارِبُوا، وأَبْشِرُوا، فإنَّه لَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ قالوا: ولا أنْتَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ منه برَحْمَةٍ، واعْلَمُوا أنَّ أحَبَّ العَمَلِ إلى اللهِ أدْوَمُهُ وإنْ قَلَّ» رواه البخاري.
وفي قول النبي ﷺ مغبون فيهما كثير من الناس إشارة إلى أن أكثر الناس لا يوفقون إلى اغتنام هذه النعم السابغة، وإنما يستفيد منها القليل وهم الذين يعرفون قيمتها، فكن أيها المسلم من الشاكرين، قال الله ﷻ: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور﴾ سبأ: 13.
واغتنموا هذه النعم قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الندم على ما فات، فعن أبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ»، قَالُوا: وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ نَزَعَ» سنن الترمذي. وقال بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ: “مَا مِنْ يَوْمٍ أَخْرَجَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَّا يُنَادِي: ابْنَ آدَمَ اغْتَنِمَنِي لَعَلَّهُ لَا يَوْمَ لَكَ بَعْدِي، وَلَا لَيْلَةٌ إِلَّا تُنَادِي: ابْنَ آدَمَ اغْتَنِمَنِي لَعَلَّهُ لَا لَيْلَةَ لَكَ بَعْدِي”.
والحق أن الله ﷻ لم يخلقنا عبثاً، وإنما خلقنا لعبادته وطاعته في كل حالٍ من أحوالنا، قال الله ﷻ: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ المؤمنون: 112 – 116
فسارعوا إلى طاعة ربكم وطلب مغفرته، واعملوا الصالحات قبل أن يأتي يوم ولسان حالكم كما جاء في قوله ﷻ: ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ الفجر: 24.
⬛️ وهذه: خطبة عن نعمة الصحة والعافية
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102.
لا تنسوا الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ﷺ، فعن أبي بن كعب رضي الله عنه (أن من واظب عليها يكفى همه ويغفر ذنبه)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا»، وصلاة الله على المؤمن تخرجه من الظلمات الى النور، قال ﷻ: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ الأحزاب:43، ومن دعا بدعاء سيدنا يونس عليه السلام: ﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ استجاب الله له، ومن قالها أربعين مرة فإن كان في مرض فمات منه فهو شهيد وإن برأ برأ وغفر له جميع ذنوبه.
ومن قال: «سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر»، ومن قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكُتِبَتْ له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي».
وعليكم أيضا بــ «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن وهما سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» قدر المستطاع.
والحمد لله ربّ العالمين..
⬛️ ونتركك مع مقترحنا الأخير؛ وهو خطبة: عناية الإسلام بالوقت – مكتوبة