وكما هو قائِم وسائِر ومُنتَهج لدينا، فلدينا اليوم خطبة الجمعة القادمة والتي ستكون تحت عنوان: فضل الشهادة ومنزلة الشهيد وفلسفة الحرب والسلام. وهي أحد الخُطَب التي نوفِّرها لكم مكتوبة لتيسير الرجوع إليها وحِفظها بسهولة؛ فضلا عن كونها خضعت لضبط وتدقيق ومراجعة كَي تكون على مستوى مميز لخطيب وإمام لطالما أراد الأفضل على المنبر.
وفَّر لكم ملتقى الخطباء التَّابِع لموقع المزيد، خُطبًا سابِقة تختص أيضًا بعنوان خطبة اليوم، ومنها: حق الوطن والشهادة في سبيله، ومنها أيضًا؛ فضل الشهادة والتضحية في سبيل الوطن .. وغيرهما.
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله.
اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا.
الخطبة الأولى
اليوم نتكلمُ بفضل الله وفتحه وحوله وقوته عن عنوان فضل الشهادة ومنزلة الشهيد والتضحية في سبيل الوطن. وبداية؛ سأعطي نماذج سريعة على الشهداء:
شهداء خيبر
خرّج النسائي بسند صحيح وهو عنده غيره أن أعرابيا آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أريد أن أهاجر، ويبدو أن هذا الموقف كان في الطريق إلى خيبر.
فيقول الراوي: فأعطاه لبعض أصحابه يُعلمه، فلما غنم من خيبر قسم له قسمة وأرسلها له مع بعض أصحابه، وكان يرعى ظهرهم (ظهرهم؛ الجمال التي تحمل الناس) فلما أعطوه قسمته قال: ما هذا؟ قالوا: هذا قسمُ قسمه رسول الله لك، فأخذه وجاء به إلى النبي، فقال: ما هذا يا رسول الله؟
قال النبي «صلى الله عليه وسلم» : قسم قسمته لك، قال والله ما على هذا اتبعتك.
فقد أعطاه النبي ذلك أجراً لعمله، لأنه كان يرعى ظهرهم، وذلك كان أجراً من عند الله لجهاد هذا الرجل.
وكان ذلك فيئ أفاء به الله على المسلمين، وله في ذلك حق ونصيب، وهذا هو الإسلام.
فأبى الرجل، وقال: والله ما على هذا اتبعتك، اتبعتك على أن أرمى بسهم ها هنا، وأشار إلى حلقه، فأموت فأدخل الجنة.
فقال: إن تصدق الله يصدقك. ثم لما كان القتال اجتهد وقاتل وجيء مقتولاً، فنظر إليه النبي «صلى الله عليه وسلم» وقال: أهو هو. قالوا: هو هو. قال النبي «صلى الله عليه وسلم» صدق الله فصدقه الله، وكفنه في جبته «صلى الله عليه وسلم»، وصلى عليه وقال: اللهم إن هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، وقد قتل شهيد، وأنا أشهد عليه.
وما زلنا في غزو خيبر؛ كان عبد حبشي أسود يرعى الغنم لرجل يهودي من يهود خيبر، فلما وجدهم يتجهزون بالسلاح، فقال: لما تتجهزون؟ قالوا: لرجل من قريش يدعي أنه نبي، فوقع في قلبه قول نبي فأخذ غنمه وانطلق الى النبي «صلى الله عليه وسلم» قال: إلام تدعو. قال أدعو إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن تعبد الله لا تشرك به شيئاً، قال: فإن ففلت فماذا لي؟
فقال «صلى الله عليه وسلم»: تدخل الجنة إن متُ على ذلك،. فقال الرجل: أشهد ولكن هذه غنم هي أمانة عندي لسيدي، قال ارمها بالحصباء والله يؤديها عنك فرماها فانطلقت إلى سيده فعلم أنه أسلم.
فلما كان القتال اجتهد وجيء به مقتولاً، فقال: والله لقد رأيت عن رأسه حوريتين من الحور العين، وما سجد لله سجدة. وذلك هو الصدق، فقد اجتهد غيره اجتهاداً غير مأهول.
وخرّج البخاري بسند (أنهم قالوا يا رسول الله إن فلان يُقاتل قتالاً لم يقاتله منا أحد، فلا يدع شاذة ولا فاذة إلا تتبعها بسيفه قال النبي -صلى الله عليه وسلم: هو في النار، فقال رجل: والله ليموت على ذلك “وهذه المقولة تُبين لك عظمة الإيمان في صدر الرجل؛ أي أنه يُصدق النبي «صلى الله عليه وسلم» بما يخالف عقله، فالعقل يقول أن الرجل خرج مجاهداً في سبيل الله ويختم له بالإيمان، فعندما يُنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ويقول هو في النار، فالعقل هنا يتوقف، إلا أن الرجل بثبات إيمانه وسلامة سريرته يقول: والله ليموت على ذلك فاتبعته، فقاتلهم حتى أصيب واشتدت عليه الجراح، فوضع سيفه على الأرض فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه.
فجئت إلى النبي وقلت: أشهد إنك رسول الله.
قال: بما.
قال: حدث كذا وكذا.
قال صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ثم يُختم له فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها شبراً أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.
سعد بن الربيع أسد أحد
ومن أروع الأمثلة على الشهداء سعد بن الربيع سيد قومه، وصاحب القدم العالي والرجل الذي تكلم وآخى بينه وبين عبد الرحمن فقال: هذا مالي اقسمه نصفين لك نصفه ولي نصفه، وعندي زوجتان انظر إليهما أيهما تعجبك طلقتها فإذا انقضت عدتها تزوجها.
وهذا هو القرن الفاضل الذي يُعظم الله ورسوله على نفسه وهواه، (لا يؤمن أحدكم حتى أكون وما جئت اليه أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه) ورواية أخرى (حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)
فهذا سعد بن الربيع من أسود أحد، فأغلب من استشهدوا في أحد كانوا من الذين يؤثرون حياة غيرهم على حياتهم وينطلقون يبتغون ما عند الله.
والشاهد؛ أن رسول الله رأى الأسنة تُسرع إليه فقال: من يأتيني بخبر سعد بن الربيع افتقده.
فقال أبي: أنا آتيك به يا رسول الله، فقال النبي «صلى الله عليه وسلم» تفقدوا بين الأحياء والأموات ثم اقرأه مني السلام وقل له إني راض عنه، فبحث عنه ثم وجده، فقال: سعد.
قال: لبيك أُبي.
قال له أُبي: إن رسول الله أرسلني اتفقدك بين الأحياء والأموات وهو يقرئك السلام.
قال: وعلى رسول الله السلام، أخبره أني أجد الجنة دون أحد وأخبر قومك من خلفك ألا يوصل لرسول الله ولأحدهم عين تطرف.
فلا يبك سعد على أبنائه، ماذا يُصيبهم من بعده؟ ولم يبك على المال الذي جمعه في السنوات الطويلة.
لم يتوقف عند الأحلام والآمال والطموحات، لم يتوقف عند خطط الدنيا.
قال فقط: إني أجد ريح الجنة دون أحد، هذا هو الإيمان الصادق والقلب النابض بحب الله ورسوله، أيها الأحبة الكرام.
تأميل أخي الحبيب موقف أنس بن النضر يوم أحد عندما أشيع بعد مقتل مصعب بن عمير أن رسول الله قد قتل، فيقول هذا الصحابي الجليل: اللهم إني أعتذر إليك مما فعل هؤلاء ويُشير إلى المسلمين، وأبرأ إليك مما فعل هؤلاء ويُشير إلى المشركين.
ويقول: والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد وينطلق يُقاتل حتى يقتلوه فما عرفته إلا أخته بشيء في إصبعه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكُم.
الخطبة الثانية
الحمد لله كما أمر والصلاة والسلام على النبي المعتبر محمد صلى الله عليه وسلم خير البشر.
فذكرنا أحبتي في الله أمثلة كثيرة على الشهداء وأعظم شهداء الإسلام ومنهم مصعب بن عمير، وعبد الله بن جحش الذي تمنى على سعد بن أبي وقاص وقال: إني داعٍ فأمن، اللهم ارزقني غدا برجل حرده شديد (أي بأسه شديد) يقاتلني وأقاتله فيقتلني ويجدع أنفي وأذني ثم أحشر يوم القيامة مجدوع الأنف والأذن فيقال فيما قتلت؟ فأقول: قوتلت فيك وفي رسولك فقال آمين فكان كذلك) هذا عبد الله بن جحش.
عبد الله بن حرام
عن عبد الله بن حرام (أبو جابر) قد قتل فكلمه ربه. وما كلّم الله أحد إلا من وراء حجاب، أما هذا فقد كلمه كفاحا “مباشرة” فقال الله «عز وجل»: عبدي تمنَ علي.
فقال عبد الله: أتمنى أن أعود فأقتل ثم أعود فأقتل.
وهذا هو أجر الشهيد عند ربه، أعظم مكانة وأرفع منزلة. هو قال الله تعالى: إنه قد سبق القول مني.
فقال عبد الله: فأخبر قومي.
فقال الله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) وهذا عمرو بن الجموح، لديه أربعة أبناء؛ خلاد ومعاذ ومعوذ وأبا أيمن.
قالوا: نكفيك أنت أعرج، فشكاهم إلى النبي وقال: يا رسول الله إن أبنائي يمنعون. قال رسول الله: أنت معذور.
فقال: أريد أن أطأ بعرجتي الجنة، فقتل.
فقال النبي: والله لقد رأيته في الجنة، وليس بعرجة بل برجل سليمة.
وهب بن قابوس المزني
وهب بن قابوس المزني وابن أخيه يأتون بغنم إلى المدينة ليبيعوا فيها، فلم يجد أحد فقال: أين الناس؟ قالوا: يجاهدون مشركي قريش. قال: لا يُترك القوم، وترك غنمه وذهب إلى المعركة، واقترب من النبي، فجاء خالد وعكرمة عندما انهزم الرماة، فقال رسول الله: من لهذه الفرقة فقال وهب: أنا يا رسول الله فقام فقاتل ورماهم بنبله حتى أرجعهم ثم جاءت كتيبة أخرى فقال: من لهذه الكتيبة، قال: أنا يا رسول الله، فقام بسيفه حتى رجعوا ثم جاءت كتيبة فقال من لهذه، قال: أنا يا رسول الله، فقال «صلى الله عليه وسلم» قم ولك الجنة، فقاتلهم حتى قتل، فقام ابن أخيه يُقاتلهم حتى قتل.
فيقول عمر: والله ما تمنيت الموت إلا تلك اللحظة، وما تمنيت ميتة إلا ميتة ذلك المزني.
الأصيرم من بني عبد الأشهل
الأصيرم من بني عبد الأشهل سيد الأوس، وهي قبيلة عالية الشأن. عندما أسلم سعد بن معاذ أسلم بإسلامه قومه إلا أصيرم، وكان النبي صلى الله وسلم يعرض عليه الإسلام فيأبى، فلما كان يوم أحد كان خارج المدينة وعاد إليها فقال: أين سعد بن معاذ؟ قالوا: يقاتل ويزود عن رسول الله.
قال: أين ابن أخيه.
قالوا: يقاتل ويزود عن رسول الله.
فوقف وقال رسول الله يدعوني إلى الله وأنا آبى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، ويخرج ويقف في الصف فيقولون له: عمير؛ ما الذي ما الذي جاء بك يا عمير؟ قال جئت، أسلمت لرسول الله فأخذت نبلي وقوسي وسهمي ورمحي وركبت فرسي، وجئت أجاهد في سبيل الله.
فلما نقضت المعركة بني عبد الأشهل يبحثون في قتلاهم فوجدوا أصيرم.
فقالوا: أصيرم؛ أجئت تزود عن قومك. قال: والله ما جئت أزود عن قومي، ولكن جئت أزود عن رسول الله حتى حدث بي ما ترون (جروحه) ولئن قتلت بجراحي هذه، فمالي ادفعوه كله إلى محمد يضعه حيث شاء.
فأخبر النبي فقال: هو في الجنة. فكان أبي هريرة يحدث فيما يرويه البخاري عن رجل دخل الجنة ولم يركع لله ركعة ولم يصم لله ساعة، فيقولون من هو. فيقول: أصيرم بن عبد الأشهل.
قزمان بن الحارث رجل خرج يُقاتل في أحد الغزوات، وقد قتل سبعة أو تسعة يوم أحد، ثم انهالت جراحه، فقالوا: قزمان؛ خرجت تقاتل في سبيل الله فقتلت سبعاً أو تسعاً إن لك لموضعاً.
قال: والله ما خرجت مقاتلاً عن محمد، ما خرجت إلا مقاتلاً حمية لقومي، خرجت أقاتل عن الأشجار والثمار والنساء والأطفال والتلال والهضاب والأنهار والسهول خرجت أقاتل عن التضاريس، لم يقاتل لله، فأخبر النبي، فقال: هو في النار.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أصيرم أجر كبير وعمل قليل. لأنه أسلم ساعة واحدة، وهي من أدخله الجنة.
فمن قتل تسعة أو سبعة ولم يخرج لله لم ينفعه بأسه الشديد وحرده الشديد، وإنما قال عنه رسول الله هو في النار.
فلسفة الحرب والسلام
عباد الله، إن ربكم -جل وعلا- جعل العلاقة مع المخالف يحكمها قانون في سورة مدنية واضحة -وهي سورة النساء- يقول الله فيها -وهذا هو القانون العام- (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين).
إذًا، كل من لم يقاتلنا ولم يُخرِجنا من ديارنا فإننا مأمورون أن نبرَّه وأن نُحسِن إليه وأن نُقسط معه وأن نكون عادلين، لأن الله يحب المقسطين.
وكل من انتهك هذا المفهوم (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).
وجعل الله العلاقة في القتال يحكمها أن طرفًا اعتدى عليك؛ فقال تعالى (وقاتلوا في سبيل الله) بقانون (الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين).
وهذه آية مدنية، ويستحيل أن تُنسَخ تحت أي معيار لأن النسخ لا يطرأ على الخبر. وإذا قلنا أن هذه الآية منسوخة، فيعني أن الله يومًا سيحب المعتدين وهذا مستحيل.
حتى في قانون العلاقة مع ذوي الميثاق، حلفاء، الذين يتشاجرون معهم؛ نحترمهم، قال تعالى (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا).
فأي آية قرآنية تجدها تشير إلى، أو يُشتَم منها رائحة العنف فاعلم أنها تحت عنوان الآية (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم..) وأي آية تدعو إلى الرقة والسلام، فاعلم أنها تحت عنوان (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم..).
ولعل من ترونه في سيرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- من مواقف برز فيها جليًا فلسفة الحرب والسلام ما يؤكد على نهج هذا الدين الحنيف في هذه الأمور.
الدعاء
- اللهم اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
- اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
- اللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
تفاصيل الخطبة
- عنوانها: فضل الشهادة ومنزلة الشهيد وفلسفة الحرب والسلام.
- للشيخ: عبدالوهاب محمد «تم التعديل عليها بما يلزَم لتتناسب مع المغزى المُراد».
- فحواها: إذا كانت نيَّتُك أن يكون موضوع خطبة الجمعة القادمة عن الشهادة والشهداء، لكونها الخطبة الموحدة من وزارة الأوقاف لهذه الجمعة، أو أنها من اختيارك؛ فهذه الخطبة تتحدَّث بشكل مباشر عن بعض شهداء الإسلام ومكانتهم، ثم تطرَّقنا -بشكل مختصر- للحديث عن فلسفة الحرب والسلام في الإسلام.