مقدمة الخطبة
الحمد لله الكريم الرحمن (الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى * فجعله غثاء أحوى). نحمده سبحانه على ما هدانا واجتبانا، ونشكره –جل شأنه– على ما أعطانا وأولانا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خلقنا لعبادته، وأمرنا بطاعته، ونهانا عن معصيته، ووعدنا الجنة إن أطعناه، والنار إن عصيناه، فلا حجة لأحد عليه –سبحانه–، وله الحجة البالغة على خلقه.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بلغ البلاغ المبين، ودل على الصراط المستقيم، وبشر بدار النعيم، وحذر من عذاب الجحيم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
الشكر صفة عظيمة من الصفات التي وصف الله ﷻ بها ذاته سبحانه، ووصف بها رسله عليهم الصلاة والسلام، وأمرنا بالتحلي بها في سلوكنا، قال الله ﷻ: ﴿مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ سورة النساء: 147.
فقد عطف الله ﷻ الإيمان على الشكر، لما بينهما من صلات عظيمات، ودل قوله ﷻ (وكان الله شاكراً عليماً) على أن الله ﷻ كان ولا يزال شاكراً عليماً، ليكون للعبد حظ من هاتين الصفتين، مما يدعونا لنكون شاكرين عابدين طائعين لرب العالمين، قال قتادة: “إن الله جل ثناؤه لا يعذب شاكراً ولا مؤمناً”، لأن الشاكر لله ﷻ هو المؤمن حقاً، والأصل بالمؤمن أن يكون شاكراً لربه سبحانه الذي أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه﴾ سورة النحل: 53.
إذا كان شكري نعمةَ الله نعمة
عليّ له في مثلها يجبُ الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله
وإن طالت الأيام واتصل العمر
لقد كان سيدنا نوح عليه السلام عبداً شكوراً، قال الله ﷻ: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ سورة الإسراء: 3، كان عبداً محققاً العبودية لله ﷻ، شكوراً لربه الذي أكرمه بالرسالة وجعله الأب الثاني للبشر، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “ما لبس نوح جديداً قط، ولا أكل طعاماً قط، إلا حمد الله ﷻ لذلك، لذا قال الله عنه “عبداً شكوراً”.
أما سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام فأثنى الله عليه ووصفه بأن كان أمة وحده، قال الله ﷻ: ﴿إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ﴾ سورة النحل: 120، أي قائماً يشكر نعم الله عليه في كل حال من أحواله ﷺ.
ومن الرسل الذين أمرهم الله ﷻ بالعمل والشكر سيدنا داود عليه الصلاة والسلام وآله، قال ﷻ: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ﴾ سورة سبأ: 13. فإن الأمر بالعمل دليل على إتقان العلم، وهو مما يتطلب الشكر الجزيل.
إن التخلق بهذه الصفة الجليلة صفة الشكر، تأتي إرضاءً لله ﷻ، واقتداءً بأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وبسيدنا رسول الله ﷺ القائل في الحديث الشريف: «أفلا أكون عبداً شكورا» رواه البخاري، فشكر الله سبحانه مفتاحٌ لكل خير، ومغلاقٌ لكل شر، وبالشكر تدوم النعم، قال الله ﷻ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ سورة إبراهيم: 7، ولكنْ قليلٌ من عباد الله الشكور، قال الله ﷻ: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ سورة سبأ: 13، ذلك لأن الشكر درجة لا يرتقي إليها إلا المخلصون الذي جاهدوا في الله ﷻ فهداهم سبلهم. ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ العنكبوت:69.
عباد الله: إن شكر الله ﷻ دليلٌ على كمال العقول، وصلاح القلوب، وصفاء النفوس، ألا وإن من أعظم الشكر، الإيمان بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد ﷺ نبياً ورسولاً، فالهداية الى الطريق المستقيم، تحتاج الى شكر العبد لمولاه، قال الله ﷻ: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ سورة الإنسان: 3.
ومن شكر الله أيضاً أداء الفرائض والواجبات، قال بعض الصالحين: الصلاة شكر والصيام شكر، وكل خير نعمله لله شكر، وأفضلها الشكر والحمد، قال الله ﷻ: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾ سورة الزمر: 66، وكما يكون الشكر بأداء الطاعات، يكون باجتناب المعاصي والمحرمات، قال الله ﷻ: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ سورة البقرة: 152، أي فأذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إيايّ فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه، قال رسول الله ﷺ «فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عن شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ» ← رواه البخاري ومسلم.
إن شكر الله ﷻ أمانٌ للناس من العذاب، وسببٌ في حفظ النعم والبلاد والعباد، وزيادة في كل خير، فبالإيمان والتقوى تفتح بركات السماء والأرض، فإيمانهم بالله ﷻ وبرسله وفعلهم للطاعات، تفتح بركات السماوات والأرض، ويُغدق عليهم الأرزاق، قال الله ﷻ: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ سورة الأعراف: 96.
قال الحسن البصري: إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يُشكر عليها قلبها عذاباً، ولهذا كانوا يسمون الشكر بـ(الحافظ)؛ لأنه يحفظ النعم الموجودة، قال الله ﷻ: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ سورة سبأ: 15، وتارةً يسمونه بـ(الجالب)؛ لأنه يجلب النعم المفقودة، وهو مما يجب أن يفهمه المسلمون في هذا الزمان ليكونوا كأجدادهم الصحابة رضي الله عنهم.
ومن الوفاء شكر من صنع إليك معروفاً، أو أسدى اليك نعمة، وأولى من يشكره الناس بعد الله ﷻ أن شكر والديه اللذين كانا سبباً في وجوده في هذه الحياة الدنيا، قال الله ﷻ: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ سورة الأحقاف: 15.
ومن صور الشكر الجميل شكر الناس بعضهم لبعض، قال ﷺ: «لا يَشْكُرُ اللهَ مَن لا يَشْكُرُ الناسَ» ← رواه أبو داود.
لذا ينبغي على العبد أن يقابل الإحسان إحساناً، ويتجاوز عن الإساءة عفواً وغفراناً، فالنفس جبلت على حبّ من أحسن اليها، قال ﷺ: «من صَنَع إليكم معروفًا فكافِئوه، فإنْ لم تَجِدوا ما تكافِئونَه فادْعُوا له حتى تَرَوا أنَّكم قد كافَأْتُموه». رواه أبو داود، قال ﷺ: «من صُنعَ إليهِ معروفٌ فقالَ لفاعلهِ جزاكَ اللَّهُ خيرًا فقد أبلغَ في الثَّناءِ» ← رواه الترمذي.
وبذلك يكون الشكر سبيلاً لتحقيق الطمأنينة ودوام المحبة بين أفراد المجتمع، فيقوى المجتمع ويتكاتف ويحب بعضهم الخير لبعض، قال ﷺ: «لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ← رواه البخاري.
كما وأن الشكر يكون بالسراء يكون بالصبر أيضاً على مصائب الدنيا، قال ﷺ «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له» ← رواه مسلم.
فحريٌّ بالمسلمين أن يتصفوا بصفة الصبر التي أجزل الله ﷻ الثواب عليها، قال الله ﷻ: ﴿إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ سورة الزمر:10، وخاصة في هذه الأيام التي كثرت فيها الفتن بين الناس.
⬛️ وهنا خطبة: وصايا مفيدة لبناء أسرة سعيدة
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102.
ولا تنسوا قول النبي ﷺ: من قال: “سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر”.
ومن قال: ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكُتِبَتْ له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي”، ومن قال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ﴾.
“أيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد، وإن برأ برأ وقد غفر له جميع ذنوبه”.
والحمد لله ربّ العالمين..