مقدمة الخطبة
الحَمْدُ للهِ مُخْرِجِ الأَشْيَاءِ مِنَ العَدَمِ، وَوَاهِبِ الوُجُودِ أَسْبَابًا لِيَنْتَظِمَ، ﷻ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الكَوْنَ كُلَّهُ لِيَخْدُمَ البَشَرَ فَقَالَ: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالعِمَارَةِ وَالعِبَادَةِ، فَقَالَ ﷻ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، ثُمَّ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى إِمَامِ الرُّسُلِ وَأَفْضَلِ الخَلْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَكُلِّ مَنْ تَبِعَ نَهْجَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ تَسْعَدُوا، وَتَوَسَّطُوا فِي الأُمُورِ تُفْلِحُوا، وَتَمَسَّكُوا بِوَصِيَّةِ اللَّهِ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ، الهَادِيَةِ إِلَى رِضْوَانِهِ وَجَنَّاتِهِ، يَقُولُ اللَّهُ ﷻ: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾.
الخطبة الأولى
عِبَادَ اللَّهِ.. تَفَكَّرُوا فِي جَمَالِ صُنْعِهِ ﷻ، وَتَدَبَّرُوا فِي جَلالِ خَلْقِهِ؛ فَهُوَ الَّذِي أَمَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَالجَمَادَ وَالنَّبَاتَ وَالحَيَوَانَ، لِتَكُونَ طَوْعَ إِرَادَةِ الإِنْسَانِ، لا بِحَوْلٍ مِنَ الإِنْسَانِ وَقُوَّةٍ، وَلَكِنْ بِفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ وَكَرَمٍ، يَقُولُ وَقَوْلُهُ الحَقُّ: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، لَهُ الحَمْدُ وَالمِنَّةُ وَالثَّنَاءُ الحَسَنُ. ثُمَّ إنَّهُ جَلَّ جَلالُهُ كَرَّمَ الإِنْسَانَ بِالعَقْلِ، وَجَعَلَ العَقْلَ وَسِيلَةً بِهَا يَخْتَصِرُ المَسَافَاتِ، وَيُقَرِّبُ البَعِيدَ، وَيَحْمِلُ الثَّقِيلَ، وَمَكَّنَهُ أَنْ يُوَظِّفَ بِعَقْلِهِ صُنُوفَ النِّعَمِ لِصِنَاعَةِ آلَاتٍ جَعَلَهَا امْتِدَادًا لِعَقْلِهِ وَجَوَارِحِهِ، مُنْجِزَةً لأَعْمَالِهِ، وَمُحَقِّقَةً لآمَالِهِ. وَإِنَّ عَصْرَنَا هَذَا يَتَمَيَّزُ بِكَوْنِهِ عَصْرَ الآلَةِ وَالوَسِيلَةِ وَالتِّقْنِيَّةِ، الَّتِي جَاءَتْ مِنِ اخْتِرَاعِ الإِنْسَانِ عَبْرَ تَارِيخِهِ الطَّوِيلِ بِفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: ثُمَّ إِنَّنَا فِي عَلاقَتِنَا بِمَا يَمُورُ حَوْلَنَا مِنَ الآلَاتِ، يَتَوَجَّبُ عَلَيْنَا أَنْ نَنْتَفِعَ مِنْ خَيْرِهَا، وَنَحْذَرَ شَرَّهَا، وَلا رَيْبَ أَنَّ الجِهَازَ أَوِ الآلَةَ أَوِ التِّقْنِيَّةَ لا إِرَادَةَ لَهَا؛ إِذْ هِيَ لا تُقَرِّرُ مَا نَخْتَارُ وَمَا نُشَاهِدُ وَمَا نَتَفَاعَلُ مَعَهُ إِلَّا بِإِرَادَتِنَا نَحْنُ وَاختِيَارَاتِنَا الَّتِي نَخْتَارُهَا لأَنْفُسِنَا، فَالْخَطَرُ كُلُّ الخَطَرِ فِي أَنْ نُغَيِّبَ وَعْيَنَا وَعَقْلَنَا وَقِيَمَنَا عِنْدَ اسْتِخْدَامِهَا، ذَلِكَ أَنَّ تَغْيِيبَهَا يُنْتِجُ مَوَاقِفَ غَيْرَ سَلِيمَةٍ، وَيَلِدُ أَحْكَامًا غَيْرَ صَحِيحَةٍ، وَيُثْمِرُ أَفْعَالًا ضَارَّةً غَيْرَ نَافِعَةٍ لِلنَّفْسِ وَلِلْمُجْتَمَعِ.
وَالإِسْلامُ -عِبَادَ اللَّهِ- عَلَّمَنَا أَنْ نَكُونَ وَسَطًا فِي كُلِّ شَيْءٍ ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾، فَالإِنْسَانُ لا يُمْنَعُ مِنَ الاسْتِفَادَةِ مِنَ التِّقْنِيَّاتِ وَأَدَوَاتِهَا المُخْتَلِفَةِ، وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الاسْتِفَادَةُ وَفْقَ ضَوَابِطَ مَشْرُوعَةٍ، فَلا إِفْرَاطَ يُفْسِدُ الأَخْلاقَ وَالعُقُولَ، وَلا تَفْرِيطَ يُفْضِي إِلَى الجَهْلِ وَالتَّخَلُّفِ، فَالْمُسْلِمُ الفَطِنُ الكَيِّسُ، هُوَ مَنْ يَجْعَلُ هَذِهِ التِّقْنِيَّاتِ وَسَائِلَ تُسْهِمُ فِي تَطْوِيرِ ذَاتِهِ وَرِفْعَةِ مُجْتَمَعِهِ وَوَطَنِهِ، يُوَظِّفُهَا فِي نَشْرِ الخَيْرِ، وَتَبَادُلِ المَنَافِعِ وَالمَعْرِفَةِ.
أقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
هذه أيضًا ⇐ خطبة (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) مكتوبة بالكامِل
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للَّهِ، وَاهِبِ النِّعَمِ، وَمُزْجِي العَطَايَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، النَّبِيُّ المُصْطَفَى، وَالأَمِينُ المُجْتَبَى، ﷺ وَبَارَكَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: كُلُّ قَضَاءٍ مِنَ اللَّهِ ﷻ لِحِكْمَةٍ، وَلا شَيْءَ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ يَكُونُ عَبَثًا، بَلْ فِي كُلِّ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ لُطْفٌ خَفِيٌّ، يَفْتَحُ لِقَلْبِ المُؤْمِنِ بَصِيرَةً تَسِيرُ بِهِ إلَى نُورِ الإِيمَانِ، وَيَأْخُذُ بِيَدِهِ فِي رِحْلَةٍ عَمِيقَةٍ نَحْوَ دُرُوبِ الخَيْرِ وَظِلالِ النِّعَمِ، كَمَا أَنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ الَّتِي أَسْبَغَهَا عَلَى عِبَادِهِ هِيَ أَمَانَةٌ، وَهُوَ سَائِلُهُمْ عَنْهَا لا مَحَالَةَ، فَإِنْ هُمْ سَخَّرُوهَا لِلْحُسْنَى، نَالُوا ثَوَابَهَا، وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمُ الحُسْنَى، وَإِنْ هُمْ سَخَّرُوهَا لِغَيْرِ الخَيْرِ أَضَاعُوهَا وَعَاشُوا فِي تَبِعَاتِهَا، وَحُرِمُوا بَرَكَتَهَا، يَقُولُ اللَّهُ ﷻ: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾.
وَمِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ -عِبَادَ اللَّهِ- الَّتِي اخْتَصَّ اللَّهُ بِهَا عَصْرَنَا، تِلْكُمُ الأَجْهِزَةُ وَالآلاتُ وَالتِّقْنِيَّاتُ الكَثِيرَةُ فِي عَدَدِهَا، البَالِغَةُ فِي فَوَائِدِهَا، فَلْيَنْظُرْ كُلٌّ مِنَّا فِيمَ يَسْتَخْدِمُهَا وَكَيْفَ يُوَظِّفُهَا، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وُقُوفًا يُسْأَلُ فِيهِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَا فَعَلَ فِيهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاهُ».
وَالمُسْلِمُونَ بِإِيمَانِهِمْ يُوقِنُونَ أَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا، ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، إِنَّمَا هِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ ﴿مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، فَتَرَاهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الشُّكْرِ، قَوْلًا وَعَمَلًا، لِيَجْعَلُوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَيْدَانًا لِلإِحْسَانِ، وَمَنْبِتًا لِلإِيمَانِ.
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى إمَامِ الْمُرْسَلِينَ؛ مُحَمَّدٍ الهَادِي الأَمِينِ، فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ بِذَلكَ حِينَ قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلَّمتَ عَلَى نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وعَنْ جَمْعِنَا هَذَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.