ونُكمِل التُّحَف المنبرية اليوم، مع خطبة: السلام عليك أيها النبي. ذلك العنوان الذي أتت به خطبة الجمعة لهذا الأسبوع، لتواكِب ذِكرى مولد خير خلق الله محمد ﷺ.
تأتيكم هذه الخطبة لتكون عونًا لكم -أيها الخطباء- في إعدادكم وتحضيركم لخطبة الجمعة القادمة والتي ستكون استثنائية نظرًا لهذا الحدث الجلل، وهو ذكرى المولد النبوي الشريف.
مقدمة الخطبة
الحمد لله ﴿الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾؛ الحمد لله ﴿الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾.
وأشهد أن لا إله إلا الله، واحد أحد، فردُ صمد. وأشهد أن محمدًا رسوله الأمين، والسراج المنير، ورحمة الله للعالمين.
الخطبة الأولى
يستقبل المسلمون في شهر ربيع الأول من كل عام ذكرى عظيمة تستنطق في الفؤاد معاني المحبة، وتستعبر في العيون دموع الشوق، وتلهج الألسنة فيها بذكر سيد البشر الذي أشرقت الأرض باستقباله، وتزينت السماء بقدومه، وبشّرت به ملائكة السماء:
بك بشر الله السماء فزُينت
وتضوعت مسكاً بك الغبراء
هو النور الذي أشرقت به ظُلمات الجاهلية، وأخرج به الله الناس من دياجير الظلام الى نور الهداية الربانية يقول النبي ﷺ: «إنِّي عندَ اللهِ مَكتوبٌ بخاتَمِ النَّبيِّينَ وإنَّ آدَمَ لِمُنْجَدِلٌ في طينتِه وسأُخبِرُكم بأوَّلِ ذلك: دعوةُ أبي إبراهيمَ وبِشارةُ عيسى ورؤيا أمِّي الَّتي رأَتْ حينَ وضَعَتْني أنَّه خرَج منها نورٌ أضاءَتْ لها منه قصورُ الشَّامِ» — مسند الإمام أحمد.
قال ﷻ: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾. وقال ﷻ ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
لذلك كان لزاماً على كل مسلم أن يشكر هذه النعم العظيمة، وأن يؤدي حقها وفاءً ومحبة لمن جعلها الله تعالى على يديه، وهو سيدنا محمد ﷺ، ويكون ذلك بطاعة أوامره، وانتهاج سنته، واتباع منهجه القويم، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
وقد زاد الله تعالى نبيه الكريم تشريفاً وتعظيماً وتكريماً، وأمر المؤمنين بذلك، فأمرهم بالصلاة والسلام عليه، فقال ﷻ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
ومن مظاهر تكريم الله تعالى لنبيه ﷺ أن رفع له ذكره الشريف قال ﷻ: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾. فقرن ﷻ اسمه المُعظّم باسم النبي ﷺ، يقول مجاهد في تفسير الآية الكريمة: وهِي أشْهَد أنْ لاَ إله إلا اللَّه وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رسُولُ اللَّه، وجعل الله تعالى السلام على النبي ﷺ ركناً من أركان الصلاة في التشهد الأخير.
عن ابن عباس، أنه قال: كان رسول الله ﷺ يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول: «التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله» — صحيح مسلم.
إن اعلى معاني الشرف والقرب التي نالها سيدنا محمد ﷺ، أننا مأمورون بالصلاة والسلام عليه ونحن في حضرة الله تعالى في كل صلاة من الصلوات، ومأمورون بعد أداء التحية لله تعالى، أن نسلم على النبي ﷺ وأن نخاطبه بضمير المُخاطب لا بضمير الغائب، لأنه ﷺ حيٌّ في قلوب المؤمنين، حاضر في وجدانهم، لا تنقطع أنواره، ولا تفنى آثاره، بل هو حاضر في كل وقت، وقد قال ﷺ «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» — سنن أبي داود.
كما لم يرد في الحديث الشريف صيغة النداء فلا نقول “السلام عليك يا أيها النبي” لأن أداة النداء تفيد البُعد، والنبي ﷺ قريب من أمته، يرى أعمالهم ويستغفر لهم ذنوبهم، «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَيُحَدَّثُ لَكُمْ , وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَمَا كَانَ مِنْ حَسَنٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْ سَيِّئٍ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ» — مسند البزار.
ومعنى أن يستحضر المسلم قدر نبيه ويسلم عليه خمس مرات في اليوم والليلة، هو نسبة الخير الكثير الذي لا يحصى عدده ولا ينقطع مددُه للنبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام التابعي الفخر الفارسي: وتأويله: لا خلوت من الخيرات والبركات، وسَلِمْتَ من المكاره والمذامّ والآفات، فإذا قلنا: اللهم صلي على محمد إنما نُريدُ: اللهم اكتب لمحمد في دعوته وأمته، وذكره السلامةَ من كل نقص”.
وقال ابن الأثير: “سلامٌ عظيمٌ لا يُدرك كُنهه، ولا يعرف قدره”. وقيل:”السلام عليك” أي: “الانقياد لك، والتسليم لك”.
لذلك فإن من الوفاء للنبي ﷺ أن يؤمن ويعتقد المسلم أن النبي ﷺ أولى به من نفسه التي بين جنبيه، يقول ﷻ: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾، وبذلك فإن كل خير وفضل ودرجة يطلبها المسلم ويرجوها عند الله ﷻ، في الدنيا والآخرة، فإن رسول الله ﷺ أولى بها، وليس ذلك فضلاً ومنّة من أحد، بل الفضل والمنّة لله ورسوله ﷺ الذي هدانا وأرشدنا إلى الطريق القويم والصراط المستقيم، يقول ﷻ: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
وقد أقام الله ﷻ حضور النبي في الأمة بحضور ورثته وهم العلماء الذين يدافعون عن الدين ويذبون عن حياضه، وينشرون سنة نبيهم ويسيرون على منهاجه القويم، يقول النبي ﷺ: «وَأَنَّ العُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَرَّثُوا العِلْمَ، مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ» — صحيح البخاري.
لذلك جاء ارتباط الشهادتين وتوحيد الله تعالى، بالسلام على النبي ﷺ، والسلام على عباد الله الصالحين.
يقول ابن مسعود في شرح صيغة التشهد: “السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ”.
فالواجب على المسلم أن يتبع العلماء الصالحين، الذين يدلونه على الله تعالى ومنهج النبي ﷺ، فهم الأسوة والقدوة والطريق إلى الجنة، يقول الله ﷻ ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.
وهنا أيضًا نزيدكم بهذه الرائعة.. خطبة عن المولد النبوي الشريف مكتوبة — للخطباء الباحثون عن التميز
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
عباد الله: لقد كان وجود النبي ﷺ في الدنيا وبين أصحابه بشخصه وذاته الشريفة، أماناً لأهل الأرض من العذاب، فحين قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، أنزل الله ﷻ قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾. فإكراماً للنبي ﷺ، رفع الله تعالى العذاب والعقاب عن الناس في الدنيا.
عن أبي موسى الأشعري قال: “أمانان كانا على عهد رسول الله ﷺ، رفع أحدهما، وبقي الآخر” — مسند الإمام أحمد، فبعد انتقال النبي ﷺ للرفيق الأعلى بقي أمان واحد للناس من العذاب وهو الاستغفار.
وقد توسع العلماء في هذا المعنى إلى أن أمان النبي ﷺ لا يزال باقياً في أمته، ما دام ﷺ موجوداً في قلوبهم، يحبونه ويتبعون أمره ونهيه، ويستنون بسنته، فإن النبي ﷺ باقٍ أثره في القلوب، راسخةٌ محبته في النفوس، فكأنه لا يزال حياً بين أمته ومحبيه، ولا يزال فيهم قائماً، آمراً ناهياً، يتبعون أمره، ويستنون بسنته، فهم بذلك تشملهم الآية الكريمة، وهم داخلون في حمى النبي ﷺ، فهو معتمدهم بعد الله ﷻ، وهو أمنهم من العذاب.
قال الإمام الكسائي في تفسير الآية: “يَعْنِي وشريعتك فيهم، وَمُقْتَضى هَذَا أَنهم إِذا ضيعوا الشَّرِيعَة حل بهم الْعَذَاب وتقطعت بهم الْأَسْبَاب”، فعلينا أن نحرص كلّ الحرص على توثيق محبة النبي ﷺ وتعزيزها في النفوس والقلوب.
عباد الله؛ لا تنسوا أن تذكروا الله ﷻ كما ذكَرهُ سيدنا يونس من قبل؛ حيث قال: لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَقُولوا «سبحان الله وبحمده» 100 مرة كل يوم تُحط عنكم خطاياكم ولو كانت مثل زَبَد البحر.
وصلوا وسلموا على خير الأنام ومصباح الظلام، نبينا المختار ﷺ.
وبعد أن نهلنا -وإياكم- من هذه المباركة؛ خطبة: السلام عليك أيها النبي؛ نود أن نترككم مع اقتراح أخير أيضًا، وهو خطبة الجمعة عن مولد النبي ﷺ — مكتوبة. سائلين الله ﷻ الحليم الكريم أن يمنّ علينا -وإياكم- بنور العقول وصفاء القلوب وجمال البصيرة.