مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي رزقنا عقلا راجحا متأنيا، وفهما ذكيا متأملا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أحرص الناس على وزن الأمر قبل إتيانه، ومعرفة خطئه من صوابه، ﷺ وعلى آله وصحبه ومن تبع نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله وكونوا من ذوي الحكمة والأناة، المتأملين لعواقب الأمر والحريصين على النجاة، واجعلوا التركيز لكم صاحبا، والذهن المتأمل المتريث أنيسا.
الخطبة الأولى
أيها المسلمون: اعلموا -ألهمكم الله الحكمة- أن هذا الزمن مختلف عن أزمان مضت، وأن عصرنا متباين عن أزمان غبرت، فقد بلغ فيه التطور التقني مبلغه، وأدرك التسارع الإلكتروني قمته، ولا يكاد يجهل عاقل أنه سلاح ذو حدين، فمنهم من ينتفع به الانتفاع الأمثل، ومنهم -مع الأسف- من يسيء استعماله، فيتأذى به ويؤذي، ومن صور ذلك الاستعمال غير المشروع ما بات يطفو على السطح من مظاهر الاحتيال الإلكتروني، وهو: استخدام وسائل إلكترونية لتحقيق مكاسب غير مشروعة.
وينبغي للمسلم قبل معرفة صور ذلك وأنواعه أن يعلم -علم اليقين- أن الإسلام قد حذر الناس من الغش؛ فقد قال النبي ﷺ: «من غشنا فليس منا»، وأي احتيال على الناس إنما هو غش لهم، وحذر كذلك من أكل الأموال بالباطل؛ فقد قال تعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾، ونبه -غاية التنبيه- على أن المسلم العاقل ليس بالعجول الذي يخطف لبه أي رابط إلكتروني، أو تستهويه دعاية تقنية مغرضة، بل هو حكيم وقاف واع، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾، وجاء في الحديث: «التأني من الله، والعجلة من الشيطان»، وقد قال المصطفى لأشج عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة».
أيها العقلاء المتريثون: إن للوقاية من الاحتيال الإلكتروني وسائل كثيرة، وسبلا متنوعة؛ فمنها: حماية المعلومات الشخصية عند الولوج إلى منصات التواصل الإلكتروني؛ لأن إظهارها إلى العلن، أو تسهيل الوصول إليها يعرض صاحبها لأن يستهدف من أناس مغرضين، فيعمدوا إلى ابتزازه، أو تهديده بالإضرار به، وقد أمرنا الله بالحذر فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾، ويمكن مريد الحماية الإلكترونية هذه أن يلجأ إلى ذوي الاختصاص الأمناء ليستفيد منهم ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
وعلى الوالدين أن يحذرا أولادهما من استعمال أي لعبة إلكترونية غير آمنة، أو من الإفصاح عن أي معلومة أو بيانات تخص الوالدين، أو أي أرقام سرية تخص الأسرة، أو من التسوق الإلكتروني لأي شيء لا يعرفون عنه شيئا، فعلى الوالدين أن يتابعا أولادهما؛ ففي الحديث: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته»، وهناك برامج نافعة تختص بالرقابة الأبوية الإلكترونية، يمكن المربين تفعيلها، أو الاستعانة بأهل الخبرة في ذلك ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾.
ومن الحكمة التقنية أيضا ألا يفصح الشخص عن أي أرقام تخص حسابه المصرفي، أو بريده الإلكتروني؛ فما أكثر ما تأذى أناس بسبب هذا! وكذلك على من يملك محال -لأمور تتعلق بالتقنية، ويلجأ إليه الناس- أن يكون أمينا؛ فإن هذا عهد، والوفاء به يكون بعدم إفشائه إلى غيره ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾.
ومن الطرق الملتوية التي بات يستعملها بعض المغرضين الاتصال من أرقام مجهولة، وطلب أرقام سرية، فليحذر الإنسان -كل الحذر- من أن يكون غمرا جاهلا نزقا تتخطفه الاتصالات، فيلبي ما يطلبون، بل عليه أن يكون كيسا فطنا، يفكر في الأمور قبل ولوجها، ويزنها بميزان العقل ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾، ويلجأ إلى الجهات المختصة لحل أي مشكلة تتعلق بهذا.
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن المسلم لا يقدم على الأمور دون وعي، أو يلج المخاوف دون إدراك، بل لا بد من أن يعتصم بالعلم، ويحتمي بالتأني، وحسن الفهم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
هذه أيضًا ⇐ خطبة عن التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال والتواصل
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي وهبنا السمع والبصر والفؤاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، خير من حرص على التريث والتأني، وكان ذلك بالتعقل لا بالتمني، ﷺ وعلى آله وأصحابه الطيبين، ومن سلك مسلكهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله: إن وسائل الوقاية من الاحتيال متنوعة، ومنها ألا يدلي الإنسان ببيانات تطلب منه إلكترونيا دون تحقق أو تثبت، كالبيانات التي تتعلق بوصول غرض قد طلبه، وعدم إعطاء أي بيانات شخصية دون تحقق تام من مصدرها، والتثبت هو ديدن المسلم؛ فإن له أصلا في الشرع عظيما، ومسلكا مستقيما، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾.
وليحذر كذلك من الرد على الاتصالات المجهولة المصدر، أو الاتصالات التي يزعم متصلوها أنهم من جهة معينة طالبين أرقاما مهمة، أو من الإعلانات الإلكترونية المغرضة التي تفيد بأنك ستربح مبالغ طائلة إن أدليت بهذه المعلومات، أو أن يطلب فتح رابط إلكتروني لا يعرف مصدره يعد بمبالغ مالية كبيرة، ويجب على من وقع أسير ذلك ألا يتهاون ويسوف، وألا يلجأ إلا إلى الجهات المعنية بذلك، وإن تهاونه قد يعرضه لأخطار ومساءلات قانونية، حمانا الله وإياكم من شر المغرضين، وكيد المتربصين.
وفي خبر سليمان مع الهدهد عظة لنا أن نتثبت ولا نقتحم الأمور دون بينة ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾.
فاتقوا الله -عباد الله-، وكونوا حذرين يقظين، ومنتبهين واعين؛ فإن أكثر من يتأذى من مثل هذه الاحتيالات الإلكترونية ضعاف الخبرة في أمر التقنية، أو المتعجلون في أمر تجربة كل جديد، فلنتعلم هذه التقنيات التي تحمينا، لنحفظ أنفسنا ومجتمعنا ووطننا فـ «لا ضرر ولا ضرار».
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.