الرضا جنة الدنيا، والقناعة كنز لا يفنى. ما رأيك الآن! أعتقد أنك فطنت إلى ما لدينا اليوم. نعم، هي خطبة عن الرضا والقناعة. وكالمعتاد؛ مكتوبة، مُدقَّقة لغويًا وبلاغيًّا، ومُعزَّزة بالشواهد من كتاب الله ﷻ وسُنَّة نبيه ﷺ.
عناصر الخطبة
- الأخلاق الإسلامية تبعث الطمأنينة في القلب، وتحثّ على العمل والسعي، وتعمق معاني الإيجابية في حياة المسلم، وتجعله يبني حياته على معاني الرضا.
- الرضا والقناعة خلقان عظيمان من أخلاق المسلمين وأصلان من أصول الشريعة الإسلامية.
- الرضا والقناعة طريق السعادة والطمأنينة في الدنيا والخير والفوز في الآخرة.
- الرضا والقناعة سبيل علاج آفات المجتمع من التحاسد والتباغض.
الخطبة الأولى
إن الأخلاق الإسلامية تبعث الطمأنينة في القلب، وتحثّ على العمل والسعي، وتعمق معاني الإيجابية في حياة المسلم، وتجعله يبني حياته على معاني الرضا، مؤمناً بأن كل ما يكون فهو بإذن الله ﷻ وقضائه وقدره.
ونتحدّث في هذه الجمعة المباركة عن خُلُقٍ عظيم من أعظم الأخلاق الإسلامية الإيجابية، وهو الرضا والقناعة، إنه خلق يَبعَثُ الراحة في النَّفسِ، والطمأنينة في القلبِ، والمقصود من هذا الخلق أن نتمكن في حياتنا من معالجة الأمراض القلبية التي اضطربت بها حياة كثير من النفوسُ لغياب خلق الرضا والقناعة في واقعهم ومعيشتهم ومعاملاتهم.
إنّ الرضا هو قَبولُ ما قضى اللهُ ﷻ به، مع التسليمِ له ﷻ، وعدمِ التَسَخُّطِ على شيءٍ من حُكمِه، والقناعة هي الاكتفاء بما أعطاه الله ﷻ للإنسان من الخيرات الجزيلة دون حزن أو سخط أو ضيق على ما قد يفقده الإنسان من الأشياء، قال السيوطي: “القناعةُ الرضا بما دون الكِفاية، وتركُ التشوُّفِ إلى المفقود، والاستغناء بالموجود”.
وقَالَ ابْنُ مَسْعُود رضي الله عنه: “الرضا أَنْ لَا تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَلَا تَحْمَدَ أَحَدًا عَلَى رِزْقِ اللهِ، وَلَا تَلُمْ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ، فَإِنَّ الرِّزْقَ لَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ، وَاللهُ بِقِسْطِهِ وَعِلْمِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضَا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ”.
وخلق الرضا والقناعةُ من أعمالِ القلوب التي لا يَطَّلِعُ عليها إلا اللهُ ﷻ، ولكنَّ أثَرَها يَظهَرُ على صاحِبها، يقيناً وتصديقاً وتسليماً، بل يظهر أثر الرضا على سلوك المسلم فتجده صادقاً أميناً موفياً بالعهود.
وأعظمُ أنواع الرضا: الرضا بالله ﷻ رباً، وبالإسلام ديناً، وبسيدِنا محمدٍ ﷺ نبياً ورسولاً، ولا يتحققُ إيمانُ العبدِ إلاَّ بهذا الرضا، قال رَسُولَ اللهِ ﷺ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» صحيح مسلم، قال الإمام النووي: “مَعْنَى رَضِيتُ بِالشَّيْءِ قَنَعْتُ بِهِ وَاكْتَفَيْتُ بِهِ وَلَمْ أَطْلُبْ مَعَهُ غَيْرَهُ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ لَمْ يَطْلُبْ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَسْعَ فِي غَيْرِ طَرِيقِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَسْلُكْ إِلَّا مَا يُوَافِقُ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ فَقَدْ خَلَصَتْ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ إِلَى قَلْبِهِ وَذَاقَ طَعْمَهُ” شرح صحيح مسلم.
ومِنه: الرضا عن الله ﷻ في السراء والضراء، ومعناهُ أن لا يكره العبدُ ما يجري به قضاءُ اللهِ ﷻ، وأعلاهُ سرورُ القلبِ وسكينةُ النَّفسِ إلى قضاءِ اللهِ وقَدَرِه، وعَرَّفَ بعضُ العلماءِ الرضا بحُسنِ الخُلُقِ مع الله ﷻ، لأنَّه يوجبُ تركَ الاعتراضِ عليه في مُلكِه، امتثالاً لقول النبي ﷺ: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له» صحيح مسلم.
والمؤمنُ الصالحُ يرضى بما قَسَمَهُ الله له من الرزق، ويَقنَعُ به، ولا يُهلِكُ نفسَه لجمعِ حطامِ الدنيا، قال ﷺ وهو يحثُّ على القناعة: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» صحيح مسلم، وهذه شهادةٌ عظيمةٌ من النَّبي بفوزِ وظَفَرِ أهلِ القناعةِ والرضا عن الله ﷻ.
وهذا يعني أن لا يجعل الإنسان الدنيا أكبر همه ولا مبلغ علمه، وإنما يسلك منهج التوازن بين الدنيا الآخرة فيرضا بما قسمه الله ﷻ له ويمتثل أمر الله ﷻ بالسعي لتحقيق المزيد من التقدم والنجاح، وكما جاء في الحكمة المشهورة بين الناس: “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”، وهذا يعني أن يعمل الإنسان ويجد ويجتهد ويعتمد في حصول النتائج على الله ﷻ، ويرضى بما كتب الله ﷻ له، وأن يعمل على دفع الضر عن نفسه ما استطاع، ويرضى بالنتيجة التي كتبها الله ﷻ حتى لا تذهب نفسه حرات على أمر لا يستطيع تغييره، فالسعادة الحقيقةُ في الدنيا والآخرة تكون في الرضا والقناعة، كما إن الشقاءَ يكون في السخطِ والجَشَع، وفي هذا يقول ﷺ: «وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ» سنن الترمذي، وقَالَ ﷺ: «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكُ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ» سنن ابن ماجه.
علَّمتني الحياةُ أن أتلقّى
كلَّ ألوانها رضاً وقبولا
ورأيتُ الرِّضا يخفِّف أثقا
لي ويُلقي على المآسي سُدولا
والذي أُلهم الرِّضا لا تراهُ
أبدَ الدهر حاسداً أو عَذولا
أنا راضٍ بكل ما كتب الله
ومُزْجٍ إليه حَمْداً جَزيلا
كما أن الرضا عن الله ﷻ مِن أعظمِ صفاتِ المؤمنينَ وعبادِ اللهِ الصالحين، طلباً منهم لمرضاةِ اللهِ ﷻ، وهكذا كان الأنبياءُ الكرام، قال ﷻ عن عبدِهِ سيدِنا زكريا عليه السلام: ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا، قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ مريم2-6.
وقال ﷻ: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ مريم54-55.
واستعجلَ موسى عليه الصلاةُ والسلامُ لقاءَ ربِّهِ ليَرضى اللهُ عنه، قال ﷻ: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرضى﴾ طه 83-84.
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» صحيح مسلم.
وما أَرَقَّ وأعذَبَ قولَ اللهِ ﷻ: ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ البلد:8، فمَن رضي بقضاءِ اللهِ ﷻ وحُكمِه فقد رضي اللهُ عنه.
قال الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله:
رأيتُ القناعةَ رأسَ الغِنَى
فصِرْتُ بأذيالِها ممتَسِكْ
فلا ذا يرانِي على بابِهِ
ولا ذا يرانِي به مُنهَمِكْ
فصِرْتُ غنِيًّا بلا دِرْهَمٍ
أمُرُّ علَى الناسِ شِبهَ المَلِكْ
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) آل عمران:102.
عباد الله: ومِنَ الأسبابِ التي تُعينُ على تحصيلِ القناعةِ والرضا:
- أولاً: العلمُ الجازمُ بأنَّ اللهَ هو الرزاقُ الحكيم، قال ﷻ: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ الذاريات:58، فالرزقُ بيد الله ﷻ وحده، فلا يَقطَعُهُ أحد، ولا يَمنَعُه أحدٌ عن أحد، فإذا عَلِمَ الإنسانُ ذلك اطمأَنَّ وقنعَ بما آتاه الله ﷻ، فالرضى والقناعة سعادة وطمأنينة وراحة بال.
- ثانياً: النظرُ إلى مَن هُم دونَنا مالاً ومَنصِباً وجاهاً، فقد روى أبو هريرةُ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ» صحيح مسلم.
- ثالثاً: معرفةُ حالِ السابقين من الأنبياء والصالحين، وفي مُقَدِّمَتِهم سيدنا محمد ﷺ، فالمعرفةُ بحالِهم وكيف عاشوا يجعلُ الدنيا تَصغرُ في أعيننا، ونتعلمَ الرضا والقناعةَ مِن أحوالِهم، وهذا لا يعني عدم العمل على تغيير واقع الإنسان إلى الأفضل، وإنما هو رضا بقضاء الله ﷻ وما كتبه على العبد دون سخط أو جزع.
- رابعاً: العلمُ بأنَّ الفقرَ والغنى ابتلاءٌ وامتحان، فالفقيرُ مُمتَحَنٌ بفقرِه وحاجتِه، والغنيُّ مُمتَحَنٌ بغناه وثروتِه، وكلٌّ منهما مسؤولٌ وموقوفٌ بين يدي الله ﷻ، قال الله ﷻ: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ البقرة:155-157، وكما أنَّ الفقرَ ابتلاءٌ أيضاً فإنَّ الغنى ابتلاءٌ وامتحان، قال الله ﷻ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ الأنفال:28، فمَن عَلِمَ هذا رضيَ بأمرِ اللهِ ﷻ وقنعَ بما آتاه.
- خامساً: النظرُ في التفاوتِ والفرقِ بين الغني والفقير، فهو بسيطٌ على وجهِ التحقيق؛ فالغني لا ينتفعُ إلا بالقليل مِن مالِه، وهو ما يسُدُّ حاجَتَه، وما زاد عن ذلك فليس له، وإن كان يَملِكُه. فلو نظرنا إلى أغنى رجلٍ في العالم لا نجدُ أنَّه يستطيعُ أن يأكل من الطعام أكثرَ ممَّا يأكلُ متوسطُ الحالِ أو الفقير؛ بل ربما كان الفقيرُ يأكلُ أكثرَ منه، قال أبو الدرداءِ رضي الله عنه: “أهل الأموال يأكلون ونأكل، ويشربون ونشرب، ويلبسون ونلبس، ويركبون ونركب، ولهم فضولُ أموالٍ ينظرون إليها وننظر إليها معهم، وحسابُها عليهم، ونحن منها برَاء” ~ سير أعلام النبلاء، قَالَ ﷺ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي. وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» صحيح مسلم.
هيَ القَنَاعَةُ فالْزَمْها تَكُنْ مَلِكًا
لو لم يَكنْ لك إلا راحةَ البدنِ
وانظرْ لمن مَلَكَ الدنْيا بأكْمَلِها
هل راحَ منها بغيرِ القُطنِ والكفنِ
هذا واعلموا عباد الله أنّ الغنى ليس بكثرةِ العَرَض، وإنَّما الغنى في القناعة، فالقناعةُ كنزٌ لا يفنى، ومَن مَلَكَ القناعةَ مَلَكَ كُلَّ شيء، ومَن لم يرضَ بالقليل لا يرضا بالكثير، قال عمرُ بنُ عبدِ العزيز رضي الله عنه: “الْفِقْه الْأَكْبَر القناعة وكف اللِّسَان” أدب المجالسة.
والحمد لله رب العالمين..
⇐ تريد المزيد من الخُطَب؟ حسنًا، تابِع..