أتذكَّر حينما استمعت إلى خطبة عن الرجوع إلى الله ﷻ من أحد الشيوخ -قديما- في زمن الكاسيت، كانت بالفعل مؤثرة وقويَّة. الآن، وأنا أُحضِر لكم هذه الخطبة تذكَّرت هذه الخطبة وكيف كانت قويَّة وبليغة.
ومن هذا المبدأ والمُنطلَق أُحضِر لكم هنا خطبة مكتوبة عن الرجوع إلى الله ﷻ والتوبة الصادقة النصوح. سائِلا الله -جل شأنه- أن ينتفع بها كل يقرأها أو يستمع إليها أو يلقيها أو ينشرها.
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الأولى
الإخوة في الله خطبة اليوم تتعلَّق بأمر عظيم، ألا وهو التوبة، الرجوع إلى الله ﷻ، الأوبة إليه، الإنابة إليه، الإقلاع والهروب من جميع الذنوب والخطايا، إليه ﷻ.
والتوبة بابٌ عظيم فتحه الله لعباده المؤمنين الذين أسرفوا على أنفسهم أو قصروا فيما بينهم وبين ربهم، ففتح لهم بابا عظيما، لمن أراد أن يسلكه، لمن أراد الله له الخير، لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
آيات التوبة في كتاب الله
هذه التوبة التي حث الله ﷻ عليها في كتابه الكريم، وكذلك جاء الحَثُّ عليها والأمر بها في سُنَّة رسوله ﷺ. أذكر بعضا من الآيات المُرغبة والآمِرة بالتوبة:
- من ذلك قول الله ﷻ ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.
- وقوله ﷻ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا﴾.
- وقال ﷻ ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
- وقال ﷻ -بعد أن ذكر جملة من المعاصي، وعلى رأسها الإشراك بالله ﷻ- قال ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا | وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا﴾.
- وفي سورة مريم ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾.
- وقال ﷻ ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾.
- والتوبة يا عبد الله إنما تكون قبل الغرغرة وقبل أن يحضر أحدنا الموت. قال الله ﷻ ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا | وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾.
- يقول الله ﷻ مخاطبا عباده المقصرين في جنب الله، ثم يوفقهم للتوبة؛ يخاطبهم ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
أحاديث التوبة في السنة النبوية
ومما ورد في ذلك من السُّنَّة:
- قول النبي ﷺ «التائب من الذنب كمن لا ذنب له».
- وصح عنه ﷺ أنه قال «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله “كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ”». أي: غلب على قلوبهم ما كانوا يكسبون من المعاصي التي تعمي القلب وتصمه عن سماع الحق وتغفله، وتجعله قلبا قاسيا لا يعرف معروفا ولا يُنكر منكرا، ليس له إلا ما أُشرب من هواه.
- وصح عن النبي ﷺ أنه قال «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها».
- وصح عن النبي ﷺ أنه قال «التوبة تجُبّ ما قبلها»، أي: تمحو ما قبلها وتزيله وكأنه لم يكن.
- والأحاديث في هذا الباب كثيرة، أيضا منها قول النبي ﷺ «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».
- ويقول المصطفى ﷺ «تقبل توبة العبد ما لم يُغرغر»، يعني: ما لم تبلغ الروح الحلقوم. فإذا بلغت الروح الحلقوم عندها لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا.
- واسمع معي يا -رعاك الله-، هذا الفضل العظيم الذي يتفضل الله به على عباده في كل ليلة. فقد صح عن رسول الله ﷺ إنه قال «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني، فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟».
فبادروا عباد الله إلى التوبة ما دمنا في دار التوبة، بادر إلى ذلك قبل أن يأتي يوم يندم فيه الظالم، ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا | يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا | لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا﴾.
أقرأ هنا كذلك: خطبة عن التوبة الصادقة النصوح وفضائلها «مؤثرة — مكتوبة»
شروط التوبة النصوح
واعلم رحمني الله وإياك يا عبد الله أن التوبة ليست كلامًا يُقال باللسان فحسْب، ولا يُرَدد بالألفاظ، وإنما لا بد لها من شروط حتى تكون توبة نصوحا. ولذلك قال كما سمعنا الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا﴾.
والتوبة النصوح هي التي توافرت فيها ثلاثة شروط بالنسبة لحقوق الرب ﷻ، وأربعة شروط بالنسبة لحقوق الآدميين.
فإن كان الحق لله ﷻ؛ فلها ثلاثة شروط:
- الشرط الأول: الإقلاع من الذنب، وهو تركه بالكلية والبعد عنه، والاجتهاد في البعد عنه وعن مواطنه، حتى ينساه العبد، ولا يفكر فيه.
- الشرط الثاني: العزم على عدم العودة. أما من يتوب بلسانه وقلبه يتوق إلى العودة إلى ما يسخِط الله ﷻ فهذه ليست توبة.
- الشرط الثالث: الندم على ما فات. فالبعض من الناس يتبجَّح بذنوبه، ويتفاخر أنه فعل كذا وكذا. فلا بد أن يتأسَّف ويندم، ويتمنى أنه لم يفعل. ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾.
هذا إذا كان الحق لله ﷻ، أما أن كانت الحقوق للآدميين، فلا بد من هذه الشروط الثلاثة ولا بد من التخلص من المظالم، لا بد من التخلص من المظالم، برَد حقوق الناس إن كانت مالا أو عينا؛ ردها بعينها إن وُجدت وإلا رد مثلها وإلا رد قيمتها، وإن كانت عِرضا طلب الصفح ممن حصل عليه ذلك، فإن خشي فتنة فليدعو له وليكثر من الدعاء له.
فهذه شروط التوبة الصادقة الصحيحة المقبولة. بغير ذلك، فلا قيمة للتوبة أبدا ولو رددها آناء الليل وأطراف النهار.
إياك والتسويف
ثم يا عبد الله؛ إياك ثم إياك، والتسويف والتأخير. غدا يأتي الموت وأنت لم تتب، فبماذا تواجه ربك؟ ﴿وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾.
تذكَّر؛ انظر، ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنبٍ وخطيئة وأتوب إليه.
هنا أيضًا: خطبة عن حسن الخاتمة وعلاماتها
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد؛ فانتبه يا عبد الله، ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ | وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ | حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ | لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.
فاتق الله يا عبد الله؛ فالعبد الصالح هو الذي يرجع إلى الله ويتوب إليه، ويؤوب إليه، ويتذكر ذنوبه، ويستعد لما بعد الموت.
صاح شمر ولا تزل ذاكر الموت
فنسيانه ضلال مبين والدعاء
واعلم أنه
لا دار لِلمَرءِ بَعدَ المَوت يَسكُنُها
إِلّا الَّتي كانَ قَبل المَوتِ يَبنيها
فَإِن بَناها بِخَير فازَ ساكِنُها
وَإِن بَناها بشرّ خاب بانيها
فالكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
وهنا لا تفوتك: خطبة عن الموت مكتوبة وكاملة ومختتمة بدعاء مؤثر
الدعاء
- أسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يرزقنا وإياكم التوبة النصوح قبل الموت، إنه جواد كريم، وإنه سميع مجيب.
- اللهم إنا أسألك من فضلك ورحمتك؛ فإنه لا يملكها إلا أنت.
- اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم. ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.
- اللهم إنا نسألك البر والتقوى ومن العمل ما ترضى.
- اللهم إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم ونفخه وهمزه ونفثه.
- اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك ، وعزائم مغفرتك ، والسلامة من كل إثم ، و الغنيمة من كل بر ، والفوز بالجنة ، والنجاة من النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وهذا مقترحٌ لَك: خطبة الجمعة مكتوبة قصيرة بعنوان: بادروا بالأعمال الصالحة
خطبة عن الرجوع إلى الله pdf
خطبة اليوم ألقاها فضيلة الشيخ د. صالح بن سعد السحيمي -جزاه الله خيرًا-.
وللخطباء والأئمة الذين يتردد طلبهم مع كل خطبة، وهو توفير الخطبة بصيغة pdf للاطلاع عليها بدون إنترنت؛ فها نحن هنا لتلبية طلبهم.
لتحميل خطبة عن الرجوع إلى الله بصيغة pdf: من هنا. بالتوفيق للجميع.