نُفرِد هنا في طرح خطبة جمعة عن الربا وخطره وسبيل الخلاص منه. الخطبة تأتيكُم مكتوبة وجاهزة كاملة -بفضل الله- باحتواءها على الآيات القرآنية والأحاديث النبويَّة وأقوال السَّلف وأبيات الشِّعر. فهي خطبة شاملة كاملة لكل خطيب وإمام يريد انتقاء أكمَل الخُطَب -قدر المُستطَاع- لينفع بها عامَّة المسلمين.
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير. يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو الرحيم الغفور.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وعظيمنا محمدا رسول الله؛ الرحمة المهداة والنعمة المسداة، والسراج المنير والبشير النذير. أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه؛ أولئك المفلحون.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا | يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
الخطبة الأولى
أما بعد أيها المسلمون عباد الله. فإن الربا من أكبر الكبائر وأشنع الموبقات. وقد بين ربنا جل جلاله في القرآن إنه خصلة من خصال يهود. بسببها حرَّم الله عليهم طيباتٍ كثيرة، وأحَلّ عليهم لعنته. فقال -جل من قائل- في سورة النساء ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا | وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
كما أنه خصلة من خصال أهل الشِّرك. كان الربا في الجاهلية فاشيا. وقد أعلن رسول الله ﷺ بطلانه في خطبته يوم عرفة -في حديث عن الربا أخرجه مسلم- حين قال «وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله».
بدأ -صلوات ربي وسلامه عليه- برجلٍ من أهل بيته، وهو عمه العباس -عليه من الله الرضوان-.
يا أيها المسلمون؛ إن الربا شر في الدنيا والآخرة. الله -جل جلاله- قد آذن آكله بحرب منه. فقال -سبحانه- في آية الربا في سورة البقرة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ | فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- يقال لآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك واستعد لحرب الله.
ومن ذا الذي يقدر على حرب الله جل جلاله!
لماذا آذنهم الله بحرب؟ لأنهم قد حاربوا دينه وشرعه، وحاربوا عباده في أرزاقهم. فإن أكلة الربا أشد وزرا وإثما وفعلا من قُطَّاع الطرق. فقاطع الطريق هذا الذي يحمل سلاحه من أجل أن ينتهِب الأموال ويستولي على الممتلكات، آكل الربا أشد منه. لأن آكل الربا يستولي على الأموال وهو يبتسم في وجه من يوكِله ذلك الربا. يربط على كتفه وهو يستلِب منه ماله ويأخذ منه كَدّ يمينه وعَرَق جبينه. من أجل ذلك آذنهم الله -عز وجل- بحرب منه. والجزاء من جنس العمل.
آكل الربا ملعون
إن آكل الربا عباد الله ملعون على لسان رسول الله ﷺ؛ فقال في أحد أحاديث الربا التي وردت في صحيح مسلم، أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال «لعَن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه». كُل أكل ربا أو آكَل ربا أو كتب عقد ربا أو شهد عليه أو عمل على ترويج الربا أو تزيينه في أعين الناس أو تصويره على أنه استثمارٌ حلال أو عمِل على حراسة بيوتات الربا وبنوكه؛ كل هؤلاء رسول الله ﷺ قد شملهم باللعنة.
عذاب آكِل الربا في القبر
آكِل الربا -أيها المسلمون عباد الله- معذب في قبره ومعذب يوم بعثه، يوم حشره.
أما في قبره؛ فإن رسول الله ﷺ قد رأى في منامه عذاب أكلة الربا. الحديث رواه الإمام البخاري عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال «أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي انطلق، وإني انطلقت معهما..» وذكر حديثا طويلا، وفيما ذكره «فأتينا على نهر -حسبت أنه كان يقول- أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة، فيفغر له فاه فيلقمه حجرا فينطلق يسبح، ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجرا قال: قلت لهما: ما هذان؟».. فأوضح له جبريل -عليه السلام- أنه آكل الربا.
قال أهل الحديث: الربا أكثره يجري في الذهب، لأن الدنانير هي معيار الأشياء وقيم المتلفات، وبها تقاس الأمور من زمان بعيد. لما كان الذهب يميل في لونه إلى الحُمرة وآكل الربا إنما حرصه على الذهب فجزاؤه من جنس عمله. فإنه يسبح في نهر من ذهب. ثم بعد ذلك إذا فتح فاه فإن المَلَك يلقمه حجرا. دلالة على أنه يرجع لا بشيء. لماذا؟ لأن آكِل الربا يظن أن ماله يكثر، وإن ثروته تكبر؛ وحقيقة الأمر أن ماله منزوع البركة، وإنه ممحوق كما قال -جل من قائل- ﴿مْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيم﴾.
وفي آية الربا في سورة الروم ﴿وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُون﴾.
عقوبة آكل الربا في الآخرة
أما يوم الحشر؛ ﴿أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ | وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُور﴾. فإن الناس يخرجون من قبورهم مسرعين. كما قال ربنا -جل جلاله- ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾. مرَّة شبَّههم ربنا بالجراد ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِر﴾. ومرة شبههم بالفراش ﴿كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث﴾. يعني في أول أمرهم يكونون كالفراش، مختلطين، لا يدرون لهم وجهة. ثم إذا وُجهوا إلى أرض المحشر فإنهم يكون كالجراد، يسيرون بانتظام.
أما آكِل الربا فإن ربنا -جل جلاله- صوَّر لنا قيامه من قبره يوم القيامة. فقال -سبحانه- في آية عن الربا في سورة البقرة ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾.
قال قتادة -رحمه الله-: يقوم آكِل الربا يوم القيامة كالمجنون يُخْنَق؛ كلما نهض خَرّ.
وهذا المعنى قد صوَّره لنا رسول الله ﷺ حين ذكر لنا مشاهد رآها ليلة المعراج. ومن تلك المشاهد أنه مَرّ به أقوام بطونهم كأمثال البيوت، تسرح فيها الحيّات، كلما نهض أحدهم خَرّ. فسأل عنهم؛ فقيل له: أولئك هم أكلة الربا.
هؤلاء الذين يمتصون دماء الناس ويأخذون نِتاج عرقهم جزاؤهم من جِنس عملهم. تكبر بطونهم وتعظم لأنهم كانوا حريصين في الدنيا على أن يأخذوا جهود غيرهم. فما يستطيع أحدهم أن يحمل بطنه قائما، كلما نهض خر؛ ولا ربك أحدا.
واقرأ هنا بعض أبيات الشعر في تحريم الربا:
أموتُ وفي يَدي خبزٌ وماءٌ — وقلبٌ ذاكرٌ، والثوبُ بالِ
أَحبُّ إليَّ من قصرٍ مَشيدٍ — يُشيِّدهُ الرِّبا والقلبُ خالِ
ومن أجل أن نتصور خطورة الأمر، أذكر حديث عبد الله بن مسعود وحديث عبد الله بن حنظلة -رضوان الله عليهما-.
أما حديث ابن مسعود، فقد قال رسول الله ﷺ «الربا ثلاثة وسبعون بابا، وأيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، و إن أربى الربا عرض الرجل المسلم».
وأما حديث عبد الله بن حنظلة -رضي الله عنه-. فقد قال -عليه الصلاة والسلام- «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم؛ أشد من ستة وثلاثين زنية».
درجة الحديثين:
- صحة حديث درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية عند أهل الحديث -صحيح-. وقد أخرجه أحمد والبزار وغيرهما.
- أما صحة حديث آكل الربا كناكح أمه فهو صحيح أيضًا. وقد أخرجه ابن ماجة وابن المنذر والحاكم والبيهقي.
يقول الشوكاني -رحمه الله-: وهذا دليلٌ على بشاعة الربا وفظاعته وقُبحه.
الله -جل جلاله- بين أن ﴿فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً﴾. وحرَّمه وحرَّم الذرائع الموصِلة إليه، وسَد الأبواب المؤدية إلى الوقوع فيه، ونهانا عنه أشد النهي فقال ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى﴾. ولم يقُل: ولا تزنوا. بل قال ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى﴾. فكل ما يؤدي إلى الزنا فالشريعة تسد بابه.
درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية.. لماذا؟ يقول أهل العلم: لأن فشُوّ الزنا في المجتمعات سببه في الغالِب: الربا. فإنه لما جاعت البطون ربما تلجأ المرأة إلى الاتجار بفرجها. ربما يراها أبوها أو زوجها فيغُض الطرف عن ذلك، لأنه لا يرى سبيلا سواه.
ولذلك قارن رسول الله ﷺ بينهما. فقال -عليه الصلاة والسلام- «ما ظهر في قوم الزنا والربا؛ إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله».
قَرَنَ بين الربا والزنا، لأن الربا مؤدٍ إلى الزنا.
ولذلك؛ فإن سبيل الخلاص من الربا هو التوبة الصادقة النصوح والرجوع إلى الله -سبحانه- والعزم على عدم التعامل بالربا مطلقًا. وكذلك -كما قال أكثر العلماء- فإن التائب من الآفة يلزمه -إن كان ميسور الحال- التخلص من مال الربا. كأَنْ يتصدق به على الفقراء أو في مصالح المسلمين.
نسأل الله -عز وجل- أن يردنا إلى دينه ردا جميلا، وأن يجنبنا الربا والزنا، وإن يطعمنا حلالا. وأن يستعملنا صالحين. وإن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
توبوا إلى الله واستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه. وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشانه. وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد أيها المسلمون؛ فاتقوا الله حق تقاته، ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
ولا يخفى عن الكثير مِنَّا أضرار الربا الاقتصادية أو الاجتماعيَّة؛ وهو ما سنُفرد الحديث عنه في لقاءاتٍ أُخرى إن قدَّر الله -سبحانه- لنا البقاء واللِّقاء.
الدعاء
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به مِنا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، أولها وآخرها، علانيتها وسرها.
اللهم اغفر لنا خطأنا وعمدنا، وهزلنا وجِدنا، وكل ذلك عِندنا.
اللهم ارفع عنا البلاء والوباء وأنزل علينا السكينة والشفاء واحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل شر ووباء يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وتصلح بها ديننا، وتزكي بها عملنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتدفع بها الفِتَن عنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا سميع الدعاء.
اللهم اجعلنا لك ذكَّارين، لك شاكرين، لك مِطاوعين، لك منيبين. إليك أوّاهين.
اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا، وأجِب دعوتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا. ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم اجعل لنا من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية.
اللهم إنك قلت وقولك الحق ﴿وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِه﴾؛ اللهم إنا نسألك من فضلك أن تصب علينا الخير صبا صبا، ولا تجعل عيشنا كدا كدا. اللهم افتح علينا من بركات السماء وخزائن الأرض. اللهم أبدلنا بعد الفقر غنى، وبعد الذل عزا وبعد الخوف أمنا، وبعد الفرقة والاختلاف وحدة واعتصاما، وردنا إلى دينك ردا جميلا يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
اللهم نَوّر على أهل القبور قبورهم، واغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات؛ وارفع لهم الدرجات في الحياة وبعد الممات. إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين. وأقم الصلاة.
هذه إحدى خطب عبدالحي يوسف -حفظه الله-؛ وهو الإمام والشيخ والخطيب؛ أحد الأكارِم الأجِلاء في العالم العربي والإسلامي.
كما نوصيكم أيضًا بالاطلاع هنا على خطبة عن الربا «مكتوبة ومشكولة الآيات»