اليوم لدينا خطبة جمعة متميزة، وذلك لأنها تهتم بشأن عظيم في ديننا الحنيف؛ فستكون في ضوء الحديث الشريف «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراماً».
وستكون الخطبة -بمشيئة الله ﷻ- مقسمة إلى مقدمة، وخطبة أولى وثانية. نسأل الله ﷻ أن ينفعنا وإياكم، والمسلمون جميعا، بما جاء فيها.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين؛ القائِل في مُحكم التنزيل ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
وصلاة وسلامًا على النبي المختار ﷺ الذي قال في الكعبة «ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك؛ والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه، وأن يظن به إلا خيرا».
الخطبة الأولى
لقد عظّم الإسلام حرمة دم الإنسان وأخبر النبي ﷺ أن المؤمن لا يزال في فسحة من دينه ما لم يعتد على النفس المحرمة ويسفك الدم فمتى سفك الدم فقد وقع في خطر عظيم فقال ﷺ: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يصب دما حراماً» — صحيح البخاري.
إن حفظ النفس الإنسانية من الاعتداء عليها من الكليات الخمس التي أوجب الإسلام الحفاظ عليها، ومتى حافظ عليها يحقق العبودية لله ﷻ، ولذلك يحرم عليه يزهق نفسه أو نفس غيره بالقتل، لأن قتل النفس، وسفك الدم يجعل المؤمن يفقد فسحة عظيمة في دينه.
بل عدّ النبي ﷺ الاعتداء على النفس أعظم من زوال الدنيا، فقال ﷺ: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ ﷻ مِنْ سَفْكِ دَمِ مُسْلِمٍ» — سنن ابن ماجه.
وقد رتّب الله ﷻ اللعنات والغضب على المعتدين على النفس الإنسانية، مع ما يناله من العذاب الأليم العظيم يوم القيامة، يقول الله ﷻ: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾. بل جعل الله ﷻ قاتل النفس الواحدة في مقام من يقتل جميع الناس، لبشاعة جريمته، وقبح فعله، فقال ﷻ: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾.
وعن أبي هريرة ان رسول الله ﷺ قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار» — سنن الترمذي.
وكان آخر ما وصى به النبي ﷺ أمته في حجة الوداع، مخاطباً الأمة الإسلامية بكلمات سطرها التاريخ بمداد من نور إلى يوم الدين: «إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا، ألا هَلْ بلَّغْت» — متفق عليه.
بل إن النبي ﷺ حذر من ترويع الآمنين، وتهديد المسالمين، فقال ﷺ: «مَنْ أشَارَ إلَى أخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإنَّ المَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَنْزعَ، وَإنْ كَانَ أخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ» — صحيح مسلم.
فكيف بمن تلوثت يداه بالاعتداء على حرمة النفس وانتهاكها بغير وجه حق، وقادته دوافع نفسه الأمارة بالسوء إلى جريمة سيلقى جزاءها خسراناً وندامة في موازين العدل عند الله ﷻ: ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾.
يقول النبي ﷺ: «يأتي المقتولُ متعلِّقًا رأسُه بإحدى يديه، متلبِّبًا قاتلَه بيدِه الأخرى، تشخبُ أوداجُه دمًا، حتى يأتيَ به العرشَ، فيقول المقتولُ لربِّ العالمين: هذا قتلني فيقول اللهُ للقاتلِ: تعستَ، و يذهبُ به إلى النارِ» — سنن الترمذي.
ومما لا ريب فيه أن الدم الحرام يوقع فاعله في الإثم العظيم، وإذا اقتتل مسلمان، فالقاتل والمقتول في النار، القاتل لأنه سفك دم أخيه المسلم، والمقتول يدخل النار لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه، وبذلك خسر الاثنان ﴿القاتل والمقتول﴾ خسراناً مبيناً. ومن العدل أن يفقه المسلمون أن الإنسان لا يتحمل جريرة غيره ولا خطيئته، فالأصل في المسلم براءة الذمة من كل عمل لا يد له فيه، فلا يتحمل مسؤوليته أو تبعاته، فلا يجوز الاعتداء على أرواح الناس وممتلكاتهم أو إخراجهم من بيوتهم وحرقها بسبب فعل لا وزر ولا ذنب لهم فيه. قال الله ﷻ : ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.
وقد أكّد الله ﷻ هذه الحقيقة في خمسة مواضع في القرآن الكريم، ليبين لنا أن الإنسان هو الذي يتحمل مسؤولية أفعاله في الدنيا، وأنه محاسب عليها في الآخرة، كما أنه لا يجوز محاسبة أي فرد عن ذنب لم يرتكبه ولا علاقة له به، وقد عبّر الله ﷻ عن هذه المسؤولية بلفظ ﴿الوزر﴾ وهو الحمل الثقيل، فلا يجوز تحميل إنسان حمل غيره من الأثقال، أو ذنباً هو لم يرتكبه، يقول ﷻ: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾.
ولذلك يجب على الناس أن لا تحمل بعضها أوزار بعض فلا يتحمل الإنسان ذنباً ارتكبه قريبه أو أخوه، أو أي أحد من أفراد عائلته، فلا يجوز بأي حال من الأحوال الاعتداء على أرواح الأبرياء بالقتل أو الترويع بسبب ذنب ارتكبه غيرهم، لأن ذلك تشبه بالجاهلية الأولى التي نهى عنها النبي ﷺ «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، لا يؤخذ الرجل بجناية أبيه ولا جناية أخيه» — سنن النسائي.
كما لا يجوز الاعتداء على أموال الناس بالنهب أو على ممتلكاتهم وبيوتهم بالخراب والتدمير، جراء فورة غضب، لأن ذلك من الإفساد في الأرض الذي نهى الله ﷻ عنه، وفيه ترويع للآمنين وأكلٌ لأموالهم بالباطل.
وقد بيّن القرآن الكريم في سورة يوسف عليه السلام، بأن إنزال العقاب على غير الجاني هو من الظلم في الحكم، فحين طلب إخوة يوسف أن يضعوا أحد الإخوة مكان من وجد الصواع في رحله، فقالوا كما ذكر الله ﷻ: ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾. كانت الإجابة من سيدنا يوسف -عليه السلام- بالامتناع عن ذلك وعدم الموافقة عليه لأنه نوع من الظلم الذي سيقع على إنسان بريء لم يرتكب ذنباً ولا إثما، قال ﷻ: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾.
وهنا نوصيك بالاطلاع على خطبة: حياة النبي ﷺ من الميلاد إلى البعثة – مكتوبة كاملة
الخطبة الثانية
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
عباد الله؛ إننا في بلدنا الأردن نعيش حياةً آمنة مطمئنة، تسودها روح الأخوة والمحبة، وهي نعمة تستوجب الشكر لأننا معتصمون بحبل الله جميعاً، في هذه الأرض التي بارك الله بها في كتابه العزيز ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ فكان الاعتصام ولله الحمد والمنة، قال ﷻ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾.
والحق أن إصلاح ذات البين عند وقوع الخصومة من أعظم الأعمال وأجلها عند الله ﷻ، لما فيه من تألف قلوب المسلمين وجمع شملهم وتوحيد كلمتهم، ورأب الصدع الذي حدث بينهم، فمن يقوم بهذا العمل الطيب فهو من الوجهاء بين الناس وعند الله ﷻ، في الدنيا والآخرة. قال ﷻ: ﴿فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم﴾. وما كان هذا الأمر الرباني إلا لتبقى الأمة جسداً واحداً قوياً في وجه الطامعين الذين يريدون أن يضعفوا من بنية المجتمع، من خلال إيقاع الخصومة والعداوة بين أفراده.
وقد قال النبي ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» — صحيح مسلم.
وقد يسر الله عباداً صالحين ومصلحين وظفوا طاقتهم وفتحوا بيوتهم وسخروا إمكانياتهم من أجل الإصلاح بين الناس، يقول النبي ﷺ «إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه» — سنن ابن ماجه.
فهؤلاء النفر المصلحون عندما انصرف الناس إلى أعمالهم وخصوصياتهم انصرفوا هم إلى خدمة الناس ورعاية شؤونهم، يقول عنهم النبي ﷺ: «هم الآمنون يوم القيامة» — معجم الطبراني.
وعلى المسلم أن يتحصن بأخلاق النبي ﷺ وآدابه، فيحرص على كبح جماح العداوة في المجتمع وكل ما يؤدي إليها من قول أو فعل، وقد وجهنا الله ﷻ إلى أن أحسن ما يفعله المسلم إن انتابته موجة الغضب أن يكظم غيظه، وإن كان قادراً على إنفاذه؛ فقال ﷻ: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾.
ولا يكون كالإمعة تأخذه العزة بالإثم وتأخذه العصبية القبلية والإنتقام والثأر لقبيلته أو قرابته منه ولو كان على الباطل، قال رسولُ الله ﷺ: «لا يكُنْ أحَدُكمْ إمَّعَة، يقول: أنا مع الناس، إن أحْسنَ الناسُ أحسنتُ، وإن أساؤوا أسأتُ، ولكن وَطِّنُوا أنفسكم إن أحسنَ الناسُ أن تُحْسِنُوا، وإن أساؤوا أن لا تَظلِمُوا» — سنن الترمذي.
والحمد لله ربّ العالمين.
وفي الختام؛ نترككم مع خطبة: هدي النبي ﷺ في بيان منزلة الشهادة والشهداء