ولمتابعونا الأكارم من الخطباء في كافَّة أرجاء المعمورة نقدم خطبة الأسبوع هذه، والتي وضعنا لها عنوان: الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. وكما تعلمون، فهو من الموضوعات الهامة التي يجب تسليط الضوء عليها، والانتباه إلى ما يُمكِن أن تُحدِثه في المجتمع.
عناصر الخطبة
- المراد بالدّعوة إلى الله هو الإرشاد إلى الطريق الموصلة لمرضاة الله ﷻ.
- الدعوة إلى الله ﷻ من أشرف الأعمال التي يقوم بها الإنسان.
- أشرف من كلّف بالدعوة إلى الله ﷻ هو رسول الله ﷺ.
- الدعوة إلى الله مقصدٌ أصيلٌ من مقاصد الإسلام، وينبغي أن يصل إلى الآخرين نقياً صافياً عن كل شائبة.
- رسالة عمان رسالة الإسلام السمحة من النماذج المشرقة للدعوة إلى الله ﷻ بالحكمة والموعظة الحسنة.
مقدمة الخطبة
الحمد لله العلي الأعلى؛ نحمده فهو أهل الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، علانيته وسره، فأهل أن يحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلم الخلق بالله ﷻ، وأتقاهم له، نعت ربه ﷻ بنعوت الجلال والجمال والكمال، ونزهه عن الأنداد والأمثال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
يقول الله ﷻ: ﴿ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾، ويقول ﷻ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
لقد اعتنى القرآن الكريم بمقام الدعوة والدّعاة إلى الله ﷻ، لأنّ الدعوة إليه سبحانه من أشرف الأعمال التي يقوم بها الإنسان، ومن هنا فإن الداعية إلى الله ذو أهمية كبرى في الإسلام، لأنه الدال على الله والمرشد إليه، وهو قائد الناس ورائدهم إلى الحقّ والهدى والفلاح.
ومن يدعو إلى الله ﷻ عليه أن يتحلى بخلق النبي ﷺ، وأن يتمثل أحسن الأخلاق، وأن تصدر عنه أفضل الأعمال, وقد كانت الدعوة إلى الله في التاريخ الإسلامي صفحة مشرقة مشرفة، سطرتها الأمة بالعدل والإحسان، وجعلت عنوانها الحكمة والموعظة الحسنة.
والدعوة إلى الله تكون بتوضيح الطرق الموصلة إلى مرضاة الله ﷻ، فالمدعو إليه عند الداعية الحقّ هو الله ﷻ، لا أي شيء سواه، والطريق الحق هو الإسلام القويم، وليس الدعوة الإسلامية دعوة حزب أو طائفة أو عنصرية هنا أو هناك، وأول الدعاة إلى الله هو رسول الله ﷺ، والدعاة من بعده يستنيرون بهديه، والمدعوون هم كل الناس، عرباً وعجماً، شرقاً وغرباً، والطريق واضحة لكل من يبتغيها، لا خلل فيها ولا جور، إنما هي الأخلاق الفاضلة والعقائد الكاملة والأعمال الصالحة.
ومن عظيم شأن الدعوة إلى الله؛ أن الله ﷻ جعل الدعوة إليه وظيفة الأنبياء والمرسلين، وجعل واجب التبليغ على عاتق النبي ﷺ تكليفاً له وتشريفاً، فهو عليه الصلاة والسلام أشرف من كلّف بالدعوة إلى الله ﷻ، قال الله ﷻ في حق نبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿يا أيّها النّبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً﴾، بل شرّف الله أمر الداعي والدعوة عموماً في كتابه الحكيم، فقال سبحانه: ﴿ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله﴾، وصحابة النبيّ هم أعظم الدّعاة من بعده، فقد تحمّلوا هذا الشرف العظيم من بعده وأدّوه أحسن أداء، حتّى وصلت الدعوة إلى المسلمين في هذا الزمان.
ومن حقّ الناس جميعاً على المسلمين اليوم أن يدعوهم إلى صراط الله العزيز الحميد، بأن يبينوا هذا الطريق المستقيم، ويزيلوا ما علق به من الشّبهات والأوهام، فليس ديننا دين إرهاب ولا ظلم ولا إجحاف، بل هو دين العدالة والطهارة والتسامح والوسطية، قال الله ﷻ في كتابه: ﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين﴾.
فالدعوة إلى الله مقصدٌ أصيلٌ من مقاصد الإسلام، لأن الإسلام لا بد أن يصل إلى الآخرين نقياً صافياً عن كل شائبة، فمن هنا كانت الدعوة واجبة كل مسلم بقدر ما يستطيع، ويستفاد ذلك من حديث النبيّ عليه الصلاة والسلام: «بلّغوا عنّي ولو آية».
والدعوة لها أجر عظيم يناسب مكانتها وقيمتها في الإسلام، فأجر الداعي إلى الله لا يقف عند حد معين، بل استأثر الله به، ففي الحديث عن النّبي عليه الصلاة والسلام قال: «لأن يهدي الله بكَ رجلاً خيرٌ لك من أن يكون لك حُمْر النِّعَم»، وفي رواية: «خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس»، وهذا الحديث يحمل الدعاة على تجديد العهد مع الله ليخلصوا في الدعوة إليه والتوجه إليه والصدق معه والتبليغ الصحيح لدينه الكريم، ليدعو إلى الله وحده لا شريك له، مستشعراً نيابته عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وليست الدَّعوة حكراً على أحدٍ دون أحدٍ، بل كل شيء يربط الخلق بالخالق فهو دعوة، ولا تقتصر الدعوة على شكلٍ معين، ولا على هيئة معينة، ولا على صورة معينة، والرسول عليه الصلاة والسلام قد بيّن لنا عناوين لأساليب الدعوة على امتداد الزمان والمكان.
وكل مسلم هو داعٍ إلى الله ﷻ لقول النبي ﷺ: «بلغوا عني ولو آية»، حتى إن الإمام حجة الإسلام أبا حامد الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: “حتى الفاسق مأمورٌ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبالدعوة تزكو النفوس وتتهذب القلوب”.
وأدب الدّاعية إلى الله هو أدب النبي ﷺ في الدعوة، قال الله ﷻ: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً﴾، فالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن هي مواصفات الداعية، وأصلها وخلاصتها الاقتداء برسول الله ﷺ، فالداعية يلين القول للناس ترغيباً لهم في الهداية، ويحذرهم من المخالفة حتى لا يتمادوا في المعصية، ويكون في حاله وقوله مخلصاً لله ﷻ، ولا أدلّ من ذلك على رأفة النبي ﷺ ورحمته بالناس وتلطفه بالدعوة إلى مكارم الأخلاق، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أن أعرابيا بال في المسجد، فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله ﷺ: «دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء، أو سجلا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»، متفق عليه.
فانظر إلى رحمة النبي ﷺ ورأفته وتلطفه بالدعوة إلى الله ﷻ، فهذا الأعرابي قام بفعل عظيم ونجّس المسجد الطاهر ببوله، مشهد لم يحتمله الصحابة رضي الله عنهم، فقاموا إليه يريدون عقابه، ولكن النبي ﷺ، الرحمة المهداة، احتوى الموقف، بل وأمرهم أن لا يضروه ولا ينهروه حتى ينهي ما بدأه، ثم علّمه وأدبه برفق ولين، مما كان له الأثر الطيب في نفس ذلك الأعرابي حتى قال: «اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا» فلما سلم النبي ﷺ قال للأعرابي: «لقد حجرت واسعا» يريد رحمة الله.
نعم أيها الإخوة المؤمنون، هذه الرحمة التي تجلت والدعوة إلى الله بالرفق واللين كانت سبب محبة ذلك الأعرابي لهذا الدين وتثبيت قلبه على طاعة الله ﷻ وطاعة نبيه، ولو أن النبي ﷺ أقرّ الصحابة على توبيخ ذلك الأعرابي وعقابه _وحاشاه من ذلك_ لربما خرج الأعرابي وفي قلبه شيء من دين الله ﷻ، ولكن الرحمة واللين هي طريق الحق والهداية إلى دين الله ﷻ، كيف لا وقد قال الله عزّ وجل في كتابه الكريم، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، آل عمران: 159.
عباد الله: ومن آداب الداعية ما أرشد النبي ﷺ إليه أصحابه معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري عندما أرسلهما إلى اليمن فقال: «يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تُنفّرا، تطاوعا ولا تختلفا».
فالدّاعية يخاطب كلّ الناس على اختلاف مستوياتهم وثقافاتهم، ولهذا يجب على الداعي أن يخاطب كل صنف من الناس بما يناسبهم وبما يعقلون، وكما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “ما أنت بمحدث قوما حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”.
والدّعوة إلى الله لها أصول وضوابط، وقد بينها قول الله ﷻ: ﴿ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾، فهذه الآية فيها مراعاة لحال المدعو، فتارةً تكون الدعوة بالحكمة والعلم والبيان المفصّل، وتارة أخرى بالموعظة الحسنة والملاطفة والمجاملة، وفي بعض الأحوال بالمجادلة بالتي هي أحسن إذا كان المدعو ذا جدل وخصومة.
وأن يكون القصد والغاية من الدعوة إلى الله ﷻ هو إسداء النصيحة لا التعريض للفضيحة، فقد يستر الله ﷻ العصاة أزمنة مديدة، يمهلهم فيها لعلهم يرجعون، بل وربما يعفو عنهم ويغفر لهم ذنوبهم، فلا ينبغي للداعية أن يفضح ما ستره الله ﷻ بل يقدم النصيحة دون تشويه سمعة أو فضحٍ عباد الله، وقد قال الإمام الشافعي:
تعمدني بنصحك بانفراد
فإن النصح بين الناس نوعفإن خالفتني وعصيت أمري
وجنبني النصيحة في الجماعةمن التوبيخ لا أرضَ استماعه
فلا تجزع إذا لم تُعطَ طاعة
عباد الله: ومن أساليب الدعوة إلى الله البشارة، أي أن نقدّم أسلوب الترغيب على الترهيب، والمطاوعة لا الاختلاف، والتيسير لا التعسير، واستشعار معنى قوله ﷻ: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾، بمعنى أن تسكن الرحمة قلوبنا لتفيض على ألسنتنا، فيتصل لسان الداعية بقلب المدعو، فتكون الاستجابة المرجوة عندئذ، ونستشعر معاني الرحمة في الدعوة إلى الله، وأننا نريد أن نستنقذ الناس من النار والبغضاء والأذى ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم﴾.
وهو ما حرص عليه النبي ﷺ في كافة أحواله، حتى مع المشركين المعاندين، المظهرين للعداء بكافة وسائله، قابلهم النبي بالرحمة والرأفة بعد أن قدر عليهم، حرصاً منه ﷺ على هداية الناس وإنقاذهم من النار فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: دعانا رسول الله ﷺ فجئنا، فإذا أعرابي قاعد بين يديه، فقال: «إن هذا أتاني وأنا نائم، فاخترط سيفي، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، مخترط صلتا، قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فَشَامَ السيف ثم قعد، فهو هذا» قال: ولم يعاقبه رسول الله ﷺ، متفق عليه.
أيها الإخوة: إن الدعوة إلى الله ليست محاضرات طويلة، ولا جملاً منمقة، بل قد تكون كلمة واحدة فقط تخرج من القلب وتقع في القلب، جاء عن الفضيل بن عياض أنه كان صاحب معاصٍ في أول زمانه، وكان يقطع الطريق، فبينما هو يرتقي الجدران في معاصيه، سمع تالياً يتلو: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}، فقال: يا ربّ قد آن، انتهت عند هذه اللحظة قصة المعاصي وبدأت قصة الطاعة، لقد ولد الفُضيل مرة أخرى، وبدأ التوجه إلى الله، ماتت نفس كانت تأمر بالسوء، وبدأت نفس تأمر بالطاعة وتلوم على المعصية، لم يلزم الفضيل إلا كلمة صادقة من رجل يتلو القرآن خاشع القلب، بدون زهو بالنفس.
ومن أدب الدعوة إلى الله كذلك أن تكون فعلاً عملياً ممثلة في الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، فرب داعية يدعو الناس بلسانه وحاله ينفّر عن الإسلام، وربّ داعٍ يدعو إلى الصدق والإخلاص، وهو متعلق بالدنيا الزائلة الفانية، وهذا حال لا يرضي الله ﷻ، ولا يكتب لصاحبه القبول عند الناس، قال الله ﷻ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2].
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله ﷺ، قال: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً»، وأي هدى أعظم من هدى الله ﴿قل إن هدى الله هو الهدى﴾.
لذلك كان من واجب الدعاة وأصحاب الهمم في زماننا أن يستكملوا مسيرة نبينا ﷺ في الدعوة إلى الله ﷻ بالحكمة والموعظة الحسنة، وإظهار الصورة المشرقة الصحيحة للإسلام خاصة بعد أن حاول الخوارج والمتطرفون أعداء الإسلام أن يشوهوا صورته بكافة الوسائل والأساليب والطرق، وإظهار هذا الدين العظيم على أنه دين قتل وذبح وسفك للدماء، وهو أمر تصدى له علماؤنا الأجلاء وقادتنا بكل حزم وتحدي.
فاللهم اجعلنا من الدَّاعين للحق دوما يا رب العالمين..
والحمد لله رب العالمين..
المزيد من الخُطَب
والآن، وبعد أن انتهينا من تقديم خطبة الأسبوع في هذه الصَّفحة –والتي اخترنا لها عنوان: الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة–؛ هذه أيضًا بعض المقترحات الأُخرى:
- ↵ خطب تقشعر لها الأبدان.. الرحمة المهداة – مكتوبة
- ↵ خطبة: وما نرسل بالآيات إلا تخويفا – مكتوبة
- ↵ خطبة عن يوم الجمعة.. خير يوم طلعت عليه الشمس
والله وليّ التوفيق.