عناصر الخطبة
- كلمة الحوار تحمل في نفسها اللطف واللين في المحاورة وإقناع الآخر بما تؤمن به دون عنف أو تجريح.
- الحوار من أساليب القرآن الحكيمة لهداية الخلق الى عبادة الحق ﷻ.
- النبي ﷺ جعل الحوار منهجاً من مناهج الدعوة لإحقاق الحق وإخراج الناس من الظلمات الى النور.
- الحوار الهادئ ظاهرة صحية في محاورة المخالفين وتاريخنا الإسلامي خير شاهد.
- مع تعدد وسائل الإعلام والانفتاح على العالم حري بالمسلمين عامة والدعاة خاصة أن يعتمدوا الحوار المستمد من القرآن الكريم والسنة المشرفة منهجاً لهم لقطع الطريق على الأعداء في الداخل والخارج.
- أسلوب الحوار خير علاج لاجتثاث الإشاعات المغرضة وإسكات دعاتها المتربصين بالوطن لتحقيق مآربهم.
الخطبة الأولى
عباد الله: إن النفس ترتاح لسماع كلمة لطيفة في مبناها ومعناها فيفتح المستمع قلبه قبل أذنه لما يُلقى عليه، ومن الألفاظ التي تحمل في نفسها اللطف واللين كلمة “حوار” لما فيها من أسلوب هادئ ممتع، يُقنع الآخر بما تؤمن به دون عنف أو تجريح، فيحصل المحاور على ثمرة طيبة من الحوار بعيداً عن الجفاء والخصام.
والحق أن البشر مختلفون في ألوانهم وصورهم وفي ألسنتهم وطباعهم، وفي عقولهم ومعارفهم وفي قناعاتهم وتوجهاتهم، وأن عيشهم على وجه الأرض يقتضي التفاهم فيما بينهم ليعمّ الأمن والأمان، وإن أسلوب الحوار بينهم هو خير وسيلة للإتفاق ونبذ الافتراق بين الإنسان وأخيه الإنسان.
لقد ظاهر أوس بن ثابت رضي الله عنه من زوجة خولة رضي الله عنها، فذهبت إلى رسول الله ﷺ وذكرت ما جرى بينهما فأنزل الله ﷻ ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ المجادلة 1، فالحوار بين المرأة والنبي ﷺ كان حواراً مباركاً في شأن من شؤون المراة مع زوجها، فنزل حكم الله ﷻ، فصار حكم الظهار حكماً شرعياً، وهو ثمرة من ثمرات عبارة ﴿تحاوركما﴾.
إن في هذا الحوار دروساً رائعة يجب أن نستفيد منها في أدبيات الحوار فيما بيننا، وأن نجعل الحوار مع المخالف لخدمة الإسلام والوطن.
عباد الله: إن كثيرا مما نشاهده هنا وهناك من خلافات ومشاحنات، وانتشار لخطاب الكراهية بين أبناء المجتمع الواحد، سببه عدم الالتزام بأدبيات الحوار بين المختلفين، فكم من حوار لم تراع فيه أدبياته انقلب إلى شحناء وبغضاء،، وكم من حوار بين الأخ وأخيه، ولكن الشيطان نزع بينهم فانقلب إلى شجار وفراق، وكم من حوار بين زوجة وزوجها، لم يراع فيه إلى أدب الحوار كانت نهايته التقاضي لا التراضي، والطلاق لا الوفاق، وكم من حوار ونقاش عبر منصات التواصل الاجتماعي بين المختلفين في وجهات النظر، لم يتخلقوا بأبجديات الحوار البناء فأدى بهم الأمر إلى الخصام، والاغتيال المعنوي للشخصيات، واتهام النوايا، والطعن بالآخرين، وانتشار خطاب الكراهية بين أبناء المجتمع الواحد، والواقع خير شاهد على ذلك.
وفي خضم هذه الفوضى فإن الواجب على المسلم أن يتحلى بأدبيات الحوار البناء، الذي لخّصه الإمام الشافعي عندما تحاور مع أحد علماء عصره، حول مسألة علمية، فغضب ذلك العالم وغادر المجلس، فما كان من الإمام الشافعي إلا أن ذهب لزيارته في بيته، وقال له: “ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة؟” لا تحاول الانتصار في كل الاختلافات فإن كسب القلوب أولى من كسب المواقف والمعارك، لا تهدم الجسور التي بنيتها؛ فربما تحتاجها يوما، اكره الخطأ لكن لا تكره المخطئ، وأبغض المعصية ولكن ارحم العاصي، وأعلم أن مهمتنا في الحياة القضاء على المرض، لا القضاء على المرضى.
عباد الله: إن حوارات النبي ﷺ تعد منهجاً فريداً من مناهج الحوار في كل عصر ومصر، وقصة حواره ﷺ مع الشاب الذي جاء يطلب الترخيص له بالزنا خير شاهد على نجاح الحوار الجامع بين العقل والعاطفة، فقد حاور النبي ﷺ هذا الشاب المراهق بأسلوب لم يعهده الناس، فأضحى درساً ينبغي أن نخاطب به الشبان لتخليصهم من الرعونة والطيش في هذه المرحلة العمرية من سني حياتهم.
ولله در الإمام الغزالي الذي قال كلمة في أدب الحوار تكتب بالتبر لا بالحبر: «أن يكون – أي المحاور – في طلب الحق كناشد ضالة، لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد معاونه، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرّفه الخطأ وأظهره عليه».
والحق أن الحوار الهادئ في محاورة المخالفين مطلب مقصود وهو منهج العلماء الحكماء في التعليم والدعوة إلى الله ﷻ.
لقد كانوا رحمهم الله ﷻ يحرصون على الأدب الجم والخلق الرفيع بعيداً عن الغمز واللمز والطعن والتجريح ورفع الصوت والفحش في القول، فالكلمة الطيبة صدقة، والطيب لا يخرج منه إلا الكلام الطيب، والمؤمن كما قال النبي ﷺ «ليس المؤمن باللعان وبالطعان، ولا بالفاحش البذيء» مسند الإمام أحمد.
ولا شك أن خلق التواضع خير وسيلة لنجاح الحوار ولذلك يجب أن يبتعد المحاور عن ثقافة الأنا، وترك الألفاظ الدالة على التعالي والكبرياء، فإبليس عليه لعنة الله ﷻ هو أول من قال ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ الأعراف 12.
عباد الله: لقد أضحت وسائل الإعلام في عصرنا منبراً عالمياً يخاطب الناس على مختلف مستوياتهم.
ووسائل الإعلام في المملكة مدعوة لحمل رسالة الحوار التي لا تخرج عن روح رسالة عمان العالمية التي قامت على القرآن والحديث وكلام العلماء والاثبات في الخطاب الدعوي الناجح البعيد عن التعال والإقصاء.
وكذلك يجب تعميم ثقافة الحوار البناء في وسائل إعلامنا لقطع الطريق على الأعداء في الداخل والخارج ولدعوتهم إلى التجمل بالعقل بعيداً عن العواطف التي لا يهم اعتمادها في الحوار دون تعاونها مع العقول الحصيفة.
وعلى وسائل الإعلام أن تحسن الظن بالناس وتبعد منصات التواصل الاجتماعي عن القدح في النيات والمقاصد ليكون الحوار نافعاً للأمة والوطن.
⬛️ وهذه أيضًا خطبة عن كف الأذى «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبيَ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران: 102.
عباد الله: إن أهم مبادئ الحوار البنّاء أن يكون موضوع الخلاف مما يسوغ الخلاف وأن يكون بين العلماء والمجتهدين من أهل الاختصاص في موضوع معين، فالعلاقة بين العالم وغيره هي علاقة تعليم وإفادة لا علاقة جدال، وقد قال النبي ﷺ: «إن الله كره لكم قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ المَالِ» متفق عليه.
وقال ﷺ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» صحيح البخاري.
لذلك فإن الله ﷻ أرسل الأنبياء والرسل عليهم السلام إلى أقوام بمعجزات من جنس ما يحسنون، ويتقنون، وتحدى علماءهم وأهل الاختصاص منهم، حتى يتبين لهم الحق والصدق، فقوم موسى عليه السلام برعوا في السحر والكهانة، فأرسل الله ﷻ موسى عليه السلام بمعجزة العصا التي أظهرت عجز علومهم القائمة على الوهم أمام الحقيقة الواضحة، وإبراهيم عليه السلام الذي ضرب أروع الأمثلة بالحوار مع قومه بالأدلة العقلية الواضحة والأدلة الظاهرة على وجود الله ﷻ وزيف ما يعبدون ويدعون، فحاور إبراهيم عليه السلام أباه آزر ثم حاور قومه ليدلهم على الله ويخرجهم من الظلمات إلى النور.
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ…﴾ الأنعام: 74–78
ولا بد من الإشارة إلى أهمية الحوار في اجتثاث ظاهرة سلبية انتشرت في مجتمعنا وهي ظاهرت الإشاعة التي يطلقها بعض الناس المغرضين لتحقيق مآربهم ومقاصدهم وخير علاج لهذه الظاهرة أن نعتمد أسلوب الحوار معهم كما حاور إبراهيم عليه السلام قومه لإجتثاث الإشاعات وإسكات دعاتها المتربصين بالوطن ومقدراته، ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ الأنعام: 83
قال ﷻ: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ النحل:125.
والحمد لله ربّ العالمين