عناصر الخطبة
- توبة الثلاثة الذين خلفوا: دروس من قصة الصحابة الذين لم يشهدوا غزوة تبوك.
- تأثير التربية الصحيحة في بناء الأمن الفكري.
- مفهوم التحصين الفكري وأهميته في الحفاظ على الدين والوطن.
- تطور النفس البشرية في ضوء القرآن والسنة: من التلقين إلى التمرين.
- أثر الصحبة الصالحة في بناء الشخصية وترسيخ القيم الإيمانية.
- التحديات الفكرية في المجتمع الحديث وكيفية التصدي لها بوعي.
- أثر القرآن والسنة في تكوين الفهم السليم والتصدي للأفكار الخاطئة.
- الحوار الفكري مع الناشئة: كيف نقوي جوانب الخير في نفوسهم؟
- الأمن الفكري وتعزيز الوعي بأهمية المقدسات الدينية والوطنية.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين، متم النعمة ومكمل الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، منزل الكتاب الذي لا ريب فيه هدى للمتقين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، منبع الحكمة وأصل الفضيلة ومثال الرحمة، ﷺ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله-؛ فإن في التقوى النجاة، وإن من وصايا كتاب الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
أيها المؤمنون: اسمعوا كتاب ربكم وهو يذكر لكم خبر الثلاثة الذين خلفوا، وهم ثلاثة من صحابة رسول الله ﷺ لم يشهدوا مع النبي ﷺ غزوة تبوك، ولم يكن لهم عذر يمنعهم من شهود تبوك مع رسول الله ﷺ، فتنزل القرآن مخبرا عن توبة الله عليهم فقال: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
ولننظر كيف أن القرآن صور ندمهم والحال النفسية التي وصلوا إليها (ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ)، فأين يذهب من بلغت به الحال هذا المبلغ من الضيق، وقد تضيق الأرض بما رحبت على الإنسان وتكون في نفسه سعة لذلك، ولكن هؤلاء الثلاثة من الصحابة ضاقت عليهم أنفسهم؛ فقد كانوا بين ضيق الأرض وضيق أنفسهم، فأين المفر!
وفي هذا الظرف الشديد والحال الصعبة التي كان عليها هؤلاء الثلاثة من الصحابة تصل رسالة إلى واحد منهم من قيصر الروم، وماذا كان في تلك الرسالة؟ كان فيها -من حيث الظاهر- مواساة وتخفيف عنه وعرض كبير من قيصر الروم، وقد جاء في تلك الرسالة: بلغنا أن صاحبك قد جفاك، فالحق بنا نواسك.
إنه بلاء آخر -عباد الله- فوق البلاء الذي كان محيطا بكعب بن مالك من جهة، فماذا فعل كعب بن مالك؟ وهل استجاب لذلك العرض الكبير؟ لما رأى كعب بن مالك تلك الرسالة لم يتردد في عدم قبول ما فيها، بل أخذها وأحرقها في التنور وقال: هذا والله من البلاء.
أيها المؤمنون: عندما يقرأ الإنسان هذه القصة أو يسمعها يقف متأملا سائلا نفسه: ما الذي منع كعب بن مالك من الاستجابة لتلك الرسالة؟ وما الذي جعله يتعامل معها تلك المعاملة من غير تردد؟ إنه التحصين الفكري الذي كان له حصنا حصينا من الانزلاق في ترك دينه أو مخالفة شيء من تعاليمه، إنه التحصين الفكري الذي كان مانعا من التنازل عن وطنه وقيمه وهويته، إنه ذلك البناء المتين الذي بناه رسول الله ﷺ على مدار عشر سنوات أو أكثر في نفس كعب وغيره من الصحابة من أهل المدينة قبل هجرته وبعد هجرته.
إنها التربية التي يحتاج إليها الصغار والكبار في كل زمان ومكان، فقد كان النبي ﷺ للمؤمنين والمؤمنات مثل الوالد يعلمهم أمر دينهم الذي يكون به صلاح دنياهم وآخرتهم، فكان كما أخبر عنه ربه جل جلاله: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ).
وفي هذه الآية -عباد الله- منهاج متكامل للأمن الفكري الذي يحتاج إليه كل مجتمع؛ ليحفظ دينه ووطنه وقيمه وأخلاقه وهويته، فالأمن الفكري قائم على أسوة حسنة، والأسوة الحسنة للمؤمنين والمؤمنات رسول الله ﷺ، وكتاب يتلى يكون غذاء للعقول والأرواح، فيه المراشد والنصائح والتوجيهات وما يعمله الإنسان وما لا يعمله، فإذا كان القرآن هو الصاحب، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الأسوة الحسنة حصلت التزكية، وكان العلم النافع والحكمة هما ما يجعل الإنسان يضع كل شيء في موضعه (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)، وكان الاشتغال بكل علم من شأنه أن يحقق النفع للنفس والأمة؛ لأن هذا الدين يوجب طلب العلم ويأمر بالقراءة حتى كانت أول آية نزلت (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
⇐ كذلك؛ هذه: خطبة الحفاظ على الأوطان.. «كاملة» مكتوبة + ملف pdf
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو أحكم الحاكمين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، ﷺ وعلى آله وصحبه وأتباعه الأبرار المتقين.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن البناء الفكري الذي يحفظ للإنسان دينه ووطنه وقيمه وأخلاقه وهويته، ويجعله مسارعا في الخير غير متوقف عن صنع المعروف، وساعد بناء لوطنه يهمه أن يكون أرقى وطن وأحسن بلاد، لا يمكن أن يكون ذلك البناء الفكري وليد لحظة أو عمل يوم أو شهر، بل هو عمل متكامل أساسه التربية الصحيحة التي تبدأ من الوالدين وتنتهي بالمجتمع الصالح، وما المجتمع إلا أسر إن صلحت صلح المجتمع.
وأساس التربية في الإسلام أصول ثلاثة: أولها التلقين، وثانيها التمثيل، وثالثها التمرين، فالبداية بالتلقين الذي يتمثل في ما يسمعه الناشئ من الوالدين ومن هم أكبر منه، ويسمعه من المدرسات والمدرسين، ويسمعه من أفراد مجتمعه في المجالس والطرق والمجامع والأسواق وغيرها، والتمثيل ما يراه الناشئ من فعل والديه ومدرسيه ومن حوله من أفراد مجتمعه من القريب والبعيد، والتمرين أن يفعل الإنسان مثلما يفعل غيره، وكل ذلك يكون في الصغر.
فإن لقن الناشئ خيرا ورأى خيرا عمل خيرا، وإن لقن شرا ورأى شرا عمل شرا، وقد قيل في الحكمة: من شب على شيء شاب عليه.
ولنعلم -إخوة الإيمان- أن التربية عملية لا تتوقف من أول الحياة إلى آخرها، ولننظر كيف أنه بعد الآية التي ذكرت الثلاثة الذين خلفوا جاءت الآية التي تذكر الصحبة؛ للتنبيه على أثر الصحبة في صلاح الإنسان، فقال الحق ﷻ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)، وغالبا ما يتأثر الناشئة بداية مرحلة الشباب، ولذلك لا بد أن يكون التحصين الفكري مبكرا، ومن الوسائل المهمة فتح باب الحوار مع الناشئة في البيوت وفي المؤسسات التعليمية والمجامع الثقافية؛ لتعرف ما عندهم وتقوية جوانب الخير في نفوسهم، وعلاج ما يلزم علاجه من أفكار خاطئة تكون بسبب قصور الوعي ونقصان الخبرة والحكمة، وبالأمن الفكري يعرف الناشئة منزلة مقدساتهم، وأن الحفاظ عليها من الواجبات، وتعظيمها من العبادات، ومن تلك المقدسات المسجد الأقصى الذي هو حق كل مسلم ومسلمة.
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذه أيضًا يا كرام ⇐ خطبة: حب الأوطان والدفاع عنها – مكتوبة كاملة