الحسد والحقد من أمراض القلوب.. نعم، هذا هو عنوان خطبة الأسبوع التي أعددناها لكم اليوم، لربما ينال موضوعها إعجابكم ويسترعي انتباهكم وتختارونها لتكون هي خطبة الجمعة القادمة لكم.
خطبتنا مكتوبة، مُدقَّقة –كالعادة– بالكامِل.
عناصر الخطبة
- الحسد خلق ذمه الإسلام.
- مفهوم الحسد.
- خطورة الحسد وأثره على الفرد والمجتمع.
- سبل الوقاية من الحسد.
الخطبة الأولى
سلامة القلب هي رأس مال المسلم، لأنَّ القلب هو موضع نظر الربّ ﷻ؛ قال الله ﷻ: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89]، ومن أشد أمراض القلوب خطورة مرض الحسد، فينبغي على المؤمن أن يطهر قلبه من هذا المرض ومن كل أمراض القلوب، فإن النبيّ ﷺ، يقول: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا أَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»، وقال النبي ﷺ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»، ولكن ما الذي يعيق القلب أن يكون سليماً؟ هناك آفات وأمراض لهذه القلوب إذا طرأت عليها أفسدتها، ومن أعظمها وأكثرها انتشاراً الحقد والحسد.
فالحسد هو تمني زوال النعمة عن الغير، وهو أوّل ذنب عُصي الله ﷻ به في السّماء، وأوّل ذنب عصي به في الأرض، فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل، قال ﷻ: ﴿وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبروا وكان من الكافرين﴾، فكان جدال الشيطان ما استقر في قلبه من الحسد والحقد: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾.
والحسد مرض من أمراض النفس التي ترتبط بالحقد، فإن الذي يحقد على خلق الله يحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، فترى الحاسد إذا كره نعمة رآها على غيره ولّد هذا في نفسه حقداً، وهذا الحقد يدفع بصاحبه إلى أعمال تؤذي الآخرين، وهو أساس للقتل والإفساد في الأرض، وهو مرض غالب لا يخلص منه إلا القليل من الناس، وهو الذي يفسد على كثير من الناس دينهم ودنياهم، وليس أدل على ذم هذه الخصلة القبيحة من أن الله ﷻ ذمها في كتابه وعلى لسان نبيه ﷺ، وعدها الله ﷻ سبباً رئيساً في حقد غير المسلمين على المسلمين وكرههم لهم، فيقول الله ﷻ في محكم التنزيل: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وقال ﷻ: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾.
والمسلم الحق لا مكان للحسد في قلبه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «لا يجتمع في جوف عبد مؤمن غبار في سبيل الله وفيح جهنم، ولا يجتمع في جوف عبد مؤمن الإيمان والحسد»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ. وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغُضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا. وَكُونوا عِبَادَ الله إِخْوَانًا».
والحسد له أسباب كثيرة مردها إلى عدم الرضا بقسمة الله ﷻ بين عباده، فالحاسد لا يرى فضل الله عليه، ودائماً يراقب النعم التي على غيره، لا ليشكر الله عليها وإنما ليعترض عليها والله ﷻ يقول: ﴿أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله﴾، فلسان حال الحاسد يقول: يا رب لم أعطيته ومنعتني؟! أما كان الأولى أن تعطيني وتمنعه؟! فهذا في حقيقته اعتراض على الله ﷻ في حكمه وفي فعله، ولو أن الحاسد رضي بما قسمه الله له ولم يتطلع إلى ما في أيدي الناس، وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، لما وقع في حسد الآخرين، ولله در القائل:
أيا حاسداً لي على نعمتي
أتدري على من أسأتَ الأدب
أسأت على الله في حكمه
لأنك لم ترض لي ما وهب
فأخزاك ربي بأن زادني
وسدَّ عليك وجوه الطلب
ومن أسباب الحسد أيضاً التكبر والعجب بالنفس، فإذا كان الحاسد معجباً بنفسه رأى أنه أحق بالنعم من غيره، ومتى دخل الكبر إلى قلبه دفعه ذلك إلى كره النعمة على غيره، فلا يرى غيره مستحقاً للنعمة، ويرى نفسه الأحق بالنعم من غيره، فيغضب متى رأى نعم الله على الآخرين ويتمنى زوالها عنهم، ولو أنه عالج الكبر الذي في نفسه ولم يعجب بنفسه، بل نسب الأمر كله إلى ربه، ولم ير لنفسه أثراً ولا فعلاً، بل شهد وحدانية الله ﷻ في فعله وفي خلقه، ولم ير فعلاً ولا خلقاً لغير الله ﷻ، لارتاحت نفسه وما حسد غيره.
ومن مخاطر الحسد إضافة إلى الحقد الذي يولده الحاسد للمحسود، أن الحاسد لا يطمئن ولا يشعر بالطمأنينة؛ لأنه يظل يترقب الآخر، ويترقب نعم الله عليه، فتضطرب نفسه ويبقى قلقاً، ولله در القائل: لله در الحسد بدأ بصاحبه فقتله، قال الشاعر:
اصْبِرْ عَلى كَيدِ الحَسُود
فَإنَّ صَبرَكَ قَاتِلُهُ
فَالنَّارُ تَأْكُلُ بَعْضَهَا
إِنْ لَم تَجِدْ مَا تَأْكُلُهُ
عباد الله، إن الحسد مرض خطير يصيب القلب فينكت فيه نكتة سوداء، فلا يزال القلب يسود بسوء فعل صاحبه حتى يغدو القلب أسود، لا يحب الخير لإخوانه، ولا يعرف غير الحقد سمة، فيحمله هذا على السعي في أذية إخوانه، ومن هنا فقد مدح الله ﷻ المؤمنين الذين لا يحملون حسداً ولا أحقاداً في قلوبهم، فقال ﷻ: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾، فالآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن البغضاء لا تستقر في نفوس المؤمنين، بل سرعان ما تزول، وهذه نابعة من رباط الأخوة الإيمانية الوثيقة الذي يربط بين المؤمنين، فأنعِم بهذه الرابطة التي خلدها الله ﷻ في كتابه العزيز فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة﴾. فهم مقصورون على الأخوة لا على التشاحن والتباغض والتحاسد.
وسلامة الصدر هي من صفات أهل الجنة؛ لأنهم مبرؤون من كل حقد وحسد، وقد وصف الله ﷻ ذلك فقال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ * نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال: “إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوا، وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان، فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غلّ، فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم، فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبداً”.
فسلامة الصدر أيها المؤمنون إنما تكون بسلامته من كل غل وحسد وحقد وبغضاء على المسلمين، وهي من أعظم الخصال وأشرف الخلال، ثم هي من بعد خلة لا يقوى عليها إلا الرجال، وسلامة الصدر ونقاؤه مفتاح المجتمع المتماسك الذي لا تهزه العواصف ولا تؤثر فيه الفتن، وكيف يا ترى يكون مجتمع تسوده الدسائس والفتن، وتمتلئ قلوب أفراده غشا وحسدا وأمراضا؟ أفذاك مجتمع أم غابة وحوش وذئاب؟ ولقد كان الرسول ﷺ أحرص الناس على سلامة قلبه، فكان يقول النبي ﷺ فيما رواه عنه ابن مسعود: «لاَ يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ».
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
أيها الإخوة المؤمنون: إنّ الحسد يعود على صاحبه بالهم والغم وانعدام سلامة الصدر، وامتلاء قلب صاحبه بالحقد والضغينة، فما أعقل الإنسان الذي يجتنب داء الحسد، ويصفي قلبه من شوائب الحقد، إذ يربأ بنفسه عن الوقوع في الهموم والغموم، ويحفظ لنفسه سلامة الصدر، وصدق من قال: لله درُّ الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله!
اعلموا أنّ الحسد يقضي على حسنات العبد، فقد قال النبي ﷺ: «إياكُم والحَسَدَ، فإنَّ الحَسَدَ يأكُلُ الحَسَناتِ كما تأكُلُ النَارُ الحَطَبَ»، فجاهدوا أنفسكم وخلصوها من هذه الآفة الخطيرة قبل أن تقضي على دينكم ودنياكم، فإن كان الحسد على أمر من أمور الدنيا والدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، إذا كان يملكها فكيف وهو لا يملكها وتذكروا إخواني أن الله هو المعطي وهو المنعم وهو المريد المختار لذلك.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
⇐ ترغب بالمزيد؟ تابع أيضًا: