وبالمزيد نأتيكُم. وهذه خطبة جُمعَة أُخرى تُضاف إلى فهارسنا من الخُطَب المنبريَّة التي تتناول موضوع الحج، وما يتعلَّق به من حِكَم وأحكام.. فهل أنتم مُستعدون لخطبة اليوم؟
عناصر الخطبة
- مناسك الحج تذكر المسلم بأحوال الآخرة.
- الحجّ يذكر المسلمين بالمناسبات الطيبة مع سيدنا إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل عليه السلام وزوجته هاجر (أم إسماعيل).
- على الحاج أن يتعلم أحكام الحج قبل السفر.
- زيارة مسجد النبي ﷺ وقبره الشريف من القربات.
الخطبة الأولى
الحمد لله..
كلّما دار الزمان دورته وانتصف شهر ذو القعدة اتجهت أنظار المسلمين والمحبين في كل مكان في هذا العالم شوقاً وحبَّاً إلى بيت الله الحرام، فَهَا هُوَ مَوسِمُ الحَجِّ قَد أقبل علينا وأَشرَقَت أنواره، وَهَا هُمُ الحُجَّاجُ قَد بَدَؤُوا بالاستعداد لزيارة بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج العظيمة، إلى رحلة الأبدان والقلوب والأرواح، استجابة لأمر الله ﷻ:﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾.
تلك الفريضة التي جعلها الله ﷻ ركناً من أركان الإسلام، فأوجبها على من استطاع إليه سبيلاً، فقال ﷻ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، وقال ﷺ: «بُني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً».
فمن رحمة الله ﷻ بالعباد وتيسيره على الناس أنه جعل الحج على من استطاع إليه سبيلاً فهو عبادة مشروطة بالاستطاعة والله ﷻ لا يكلف نفساً إلا وسعها، فالمسلم لا يكلف نفسه فوق طاقتها ويكبّد نفسه ما لا حول له به ولا قوة، وهذه الاستطاعة تشمل القدرة المادية والبندية على أداء مناسك الحج، كما تشمل الالتزام بالأنظمة والتعليمات المقررة في وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية.
عباد الله: إن من فضائل عبادة الحج، أنها تجمع بين عبادة الروح والبدن فبأداء أركان الحج تسمو روح الإنسان ويتجلَّى الخشوع لله ﷻ على العبد وتراه يكبح جماح نفسه ويتخلى عن الدنيا وملذَّاتها وشهواتها ليقبل على الله ﷻ بقلب نقي، وفي رحلة الحج يتذكّر المسلم الموت واليوم الآخر والحشر ومشاهد القيامة، كما يبذل المسلم أمواله وجهده البدني وطاقته في أداء شعائر الحج ومناسكه طلباً لأداء مناسك هذه العبادة العظيمة، لذلك كان أجر هذه العبادة أجراً عظيماً عند الله ﷻ، وهو مغفرة الذنوب وحطّ الخطايا، يقول النبي ﷺ: «من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه».
ففي رحلة الحج، وفي الحج البذل والعطاء وإعانة الإخوان وبِرِّهم ونصحهم والشفقة عليهم وصدق الله إذ يقول: ﴿لِيَشْهَدُوْا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾، نعم إنها منافع عديدة علِمْنَا منها ما علِمْنَا وما جهلنا أكثر، فيالها من رحلة عظيمة تغسل معها الذنوب وتعود وكأنك قد وُلدتَ اليوم، لتبدأ رحلة الحياة بثوب جديد وأمل يتجدد بجنَّة عرضها السموات والأرض.
عباد الله: اعلموا أن كل منسك من مناسك الحج وكل محطة من محطاته تُذكِّر المسلم بأمر الآخرة فالاستعداد فالتحضير لرحلة الحج يذكرنا بالاستعداد لمغادرة هذه الدنيا، ولبس ثياب الإحرام يذكرنا بالتخلي عن جميع ما في هذه الدنيا والكفن الذي نلبسه بعد الموت، وما الوقوف بعرفة إلا تذكير بيوم البعث، إنها الرحلة التي تجعل المسلم يرى مشاهد اليوم الآخر بعين الدنيا، فيرحل الى الله في الحياة الدنيا قبل أن يرحل إليه في الحياة الآخرة فتكون الرحلة طوعاً قبل أن تكون كرهاً.
وفي الحج أيضاً تأكيد على أن هذا الدين إنما هو امتداد لما جاء به الأنبياء، ففريضة الحجّ تربط المسلمين بالأنبياء السابقين ورسالاتهم والسير على هداهم، وهو دليل على كمال الإيمان، وتأكيد على أن المسلم لا بد له من الإيمان برسل الله جميعاً وبرسالاتهم، ففريضة الحج ما هي إلا سير على درب أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام وزوجته هاجر، وولدهما إسماعيل عليه السلام، وفي كل نُسك يؤديه الحاج اقتفاءً لأثر أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام حكمة عظيمة تتجلى عند التأمل فيها.
فالطواف حول الكعبة المشرفة يأتي امتثالاً لأمر الله ﷻ، واستشعاراً لعظمته وهيبته وقهره ﷻ وخضوعاً له، فكما أن جميع هذا الكون يدور في أفلاك منتظمة قهراً عنه دون إرادة، فهذا المسلم يقومُ بتأدية هذا الأمر طوعاً وامتثالاً لأمر الله الذي نلتزم أمره عبوديةً وامتثالاً لأمره ونهيه.
كما أن السعي بين الصفا والمروة – وهو أحد مناسك الحجّ – يُذكّرنا بالسيدة هاجر أُمِّ إسماعيل – عليهما السلام – حينما نفد منها الماء فأخذت تسعى بين هاتيك الصخرتين بحثاً عن الماء، ففعلت ذلك سبعة أشواط وهي تتردد بين الخوف على ولدها الذي يعاني العطش، وبين الرجاء بأن تجد نجدة أو قافلة تحمل معها الماء حتى رزقها الله ماء زمزم، وبذلك يعلم المسلم أن الحكمة في السعي بين الصفى والمروة هو استحضار الخوف والرجاء في قلب المسلم الذي شعرت به السيدة هاجر، فيستحضر المسلم تقوى الله ﷻ والحذر من عقابه وعذابه، كما يطمع ويرجو رحمة ربه ومغفرته يوم القيامة.
وفي رمي الجمرات نستذكر ما فعله أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام حيث رجم الشيطان حينما أراد أن يُنفّذ أمر الله ﷻ بذبح ولده إسماعيل عليه السلام، فيعلم أن الحكمة من رمي الجمرات هو أن يرى المسلم ذنوبه ومعاصيه، وشهوات نفسه ووساوس الشيطان ماثلة أمامه فيقوم برجمها إيذاناً ببداية عهد جديد بينه وبين الله ﷻ وأنه لن يعود إلى هذه الذنوب والمعاصي مرة أخرى.
روى عبد الله بن المبارك أنه أقبل على شيخه الإمام الشبلي بعد أن عاد من الحج فسأله شيخه:
نزعت ثيابك؟ فقلت نعم: فقال لي: تجردت من كل شيء دون الله؟ فقلت: لا، فقال لي: ما نزعت.
فقال لي: دخلت الحرم؟ فقلت نعم: قال: اعتقدت في دخولك الحرم ترك كلّ محرم؟ فقلت: لا: فقال لي: ما دخلت الحرم.
فقال لي: طفت بالكعبة؟ فقلت: نعم: قال: طالعت بقلبك عظمة من تطوف ببيته؟ قلت: لا، قال: ما طفت.
فقال لي: سعيت بين الصفا والمروة؟ قلت نعم: قال: سعيت بذلك بين الخوف والرجاء؟ قلت: لا، فقال: ما سعيت.
عباد الله: وقبل أن يشرع المسلم بأداء مناسك الحج لا بد له من تعلم أحكام الحج من أركان وفرائض وواجبات وسنن ومبطلات حتى يأتي بعبادته عن بينه على أكمل وجه فلا يقع بمحظور قد يُفسد عليه حجه، وننصح الحجاج بالرجوع إلى المفتيين والمرشدين في كل ما يحتاجونه من مسائل الحج حتى يكون حجهم على علم و بصيره،
كما يحرص المسلم أن يكون حجه بنفقة مباحة حلال من غير شبهة فالحج بالمال حرام مردود غير مقبول؛ فقد روى الطبراني في الأوسط عن النبي ﷺ قال: «إذا خرج الحاج حاجَّاً بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز (أي: ركاب الدَّابّة) فنادى، لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجّك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء، لا لبيك ولا سعديك زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجّك مأزور غير مبرور».
إذَا حَجَجْت بِمَالٍ أَصْلُهُ سُحْتٌ
لا يَقْبَلُ اللَّهُ إلا كُلَّ طَيِّبَةٍ
فَمَا حَجَجْت وَلَكِنْ حَجَّتْ الْعِيرُ
مَا كُلُّ مَنْ حَجَّ بَيْتَ اللَّهِ مَبْرُورُ
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
عباد الله: على الحاج أن يحرص على زيارة نبيه المصطفى ﷺ ما تيسر له ذلك، وأن يُصلي في مسجد رسول الله ﷺ باعتباره ثاني بقاع الأرض شرفاً ومكانة بعد بيت الله الحرام؛ فالصلاة فيه بألف صلاة وهو من المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها، فشد إليه رحالك ولا يفوتنَّك ذلك الشرف العظيم.
حيث أن زيارة المدينة المنورة تجوز قبل الحج وبعده وفي هذا العام وتخفيفاً على حجاج بيت الله الحرام ستكون الزيارة بإذن الله ﷻ بعد أداء مناسك الحج لينال الحاج قسطاً من الراحة في مدينة رسول الله ﷺ بعد أداء هذا الركن العظيم ويؤدي سنة الزيارة.
تجدر الإشارة إلى أمرين هامّين هما:
- الأول: أنّ هناك علاقةٌ وثيقةٌ بين العبادات والأخلاق؛ فالصلاة: ﴿تنهى عن الفحشاءِ والمنكر﴾، وعن الزكاة قال ﷻ: ﴿خُذ من أموالهم صدقةً تُطهرهم بها﴾، وعن الصوم قال رسول الله ﷺ: «… فإذا كان يومُ صومِ أحدِكُم فلا يرفث ولا يَصخب»، ويتتجلّى صورة الارتباط الوثيق بين العبادات والأخلاق في أبهى صورها في الحجِّ؛ قال ﷻ: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوْمَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيْهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوْقَ وَلَا جِدَالَ فِيْ الْحَجِّ﴾.
- والثاني: ضرورة المحافظة على الطاعات؛ قال الله ﷻ: ﴿وَلَاْ تَكُوْنُوْا كَالَتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةِ أَنْكَاثَاً﴾، فَيَامن أَكرمك الله بالحجِّ حافظ على حجّك، ولا تضيع أجرك بالعودة إلى المعاصي والذنوب، وأكثر من الطاعات، واجتنب السيئات، واتقِ ربَّ الأرض والسماوات.
والحمد لله رب العالمين..
خُطَب مختارَة.. من أجلك
وهذه بعض خطب الجمعة الأُخرى؛ ذات الصلة بخطبتنا اليوم:
- ↵ خطبة جمعة مكتوبة كاملة؛ بعنوان: دروس من الحج
- ↵ خطبة عن الحج مكتوبة «قصيرة وجيزة»
- ↵ خطبة: الحج رسائل وحكم «كاملة – مكتوبة جاهزة»
- ↵ خطب تريح القلب.. بعنوان: الإخلاص في القول والعمل
والله الكريم ﷻ وليّ التوفيق.