يبحثون عن خطبة الجمعة مشكولة. نعم، إنهم جمْعٌ من الأئمة والخطباء الأشقاء الذين يريدون الخُطَب المشكولة بالكامل. ونحن -وهُم- الآن على موعد مع أحد هذه المباركات. إنها عن المسارعون والسابقون. وإذا لم يصِل -بشكل فوري- المعنى لأذهانكم، فلنتابع سويًا الاطلاع وننهل من هذا الجمال الوعظي والبلاغي.
مقدمة الخطبة
الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِلطَّاعَاتِ، وَدَعَانَا إِلَى المُسَارَعَةِ إِلَى الخَيْرَاتِ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، المَعْبُودُ فِي الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، خَاتِمُ النُّبُوَّاتِ، وَالدَّلِيلُ إِلَى الصَّالِحَاتِ،ﷺ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَتْبَاعِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ﴿وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
الخطبة الأولى
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: لَقَدْ ذَكَرَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى المُسَارَعَةَ وَالمُسَابَقَةَ فِي مَعْرِضِ الثَّنَاءِ عَلَى عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَإِنَّ الكَيِّسَ الفَطِنَ مَنْ يَبْحَثُ عَنِ الأَسْبَابِ الَّتِي يَدْخُلُ بِهَا فِي زُمْرَتِهِمْ، وَلَعَمْرُ اللهِ ﴿وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، وَإِذَا أَتَيْنَا إِلَى المُسَارَعَةِ المَحْمُودَةِ وَجْدَنَا مَعْنَاهَا المُبَادَرَةَ إِلَى عَمَلِ الخَيْرِ، وَالمُبَادِرُ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ العَمَلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ؛ فَتَجِدُهُ يَعْفُو مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ هَلْ أَعْفُو، وَتَجِدُهُ يُعْطِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ هَلْ أُعْطِي، وَتَجِدُهُ يَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ هَلْ أَسْتَغْفِرُ، وَتَجِدُهُ يَرْحَمُ الصَّغِيرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ هَلْ أَرْحَمُ، وَيُوَقِّرُ الكَبِيرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ هَلْ أُوَقِّرُ.
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ المُتَّقِينَ فَقَالَ فِيهِمْ: ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾، وَالمُجَاهَدَةُ بِالمَالِ بِذْلُهُ فِي صُنُوفِ الخَيْرِ وَوُجُوهِ النَّفْعِ، وَالجِهَادُ بِالنَّفْسِ حَمْلُهَا عَلَى قَوْلِ الخَيْرِ وَفِعْلِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُ ذَلِكَ هَدَاهُ اللهُ وَكَانَ مِنَ المُحْسِنِينَ، وَمَاذَا بَعْدَ دَرَجَةِ الإِحْسَانِ! يَقُولُ اللهُ ﷻ: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
وَمِنْ أَجْوَدِ القَوْلِ فِي قَوْلِ اللهِ ﷻ: ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾، قَوْلُ أَهْلِ البَيَانِ فِيهِ: “أَمَّا المُسْتَبْصِرُونَ المُؤْمِنُونَ فَهُمْ مُسْتَقِرُّونَ عَلَى مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ وَمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ أَرْقَى أَفَانِينِ الأَدَبِ الوَاجِبَةِ الاحْتِذَاءِ؛ فَإِنَّهُ لا يَلِيقُ بِالمَرْءِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ أَخَاهُ فِي أَنْ يُسْدِيَ إِلَيْهِ مَعْرُوفًا، كَمَا لا يَلِيقُ بِالمُضِيفِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ ضَيْفَهُ فِي أَنْ يُقَدِّمَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ الاسْتِئْذَانَ فِي هَذَا المَوْطِنِ دَلِيلُ التَّكَلُّفِ، وَخَلِيقٌ بِذَوِي المُرُوءَةِ وَأَرْبَابِ الفُتُوَّةِ أَلاَّ يَتَثَاقَلُوا إِذَا نُدِبُوا إِلَى أَمْرٍ جَدِيرٍ بِالمُرُوءَةِ”.
وَالمُسَارَعَةُ فِي الخَيْرَاتِ صَارَتْ سَجِيَّةً لِلْمُتَّقِينَ لا يَتَكَلَّفُونَهَا، بَلْ تَقُومُ إِلَيْهَا نُفُوسُهُمْ مِنْ غَيْرِ تَثَاقُلٍ؛ لأَنَّ التَّثَاقُلَ عَنْ فِعْلِ الخَيْرِ مِنْ صِفَاتِ المُتَرَدِّدِينَ الَّذِينَ ﴿لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء﴾، وَهَذِهِ صُورَةٌ مُقَابِلَةٌ لِتِلْكَ الصُّورَةِ المُشَرِّفَةِ؛ وَلِذَلِكَ ذَكَرَهَا القُرْآنُ الكَرِيمُ بَعْدَهَا فَقَالَ: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾.
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ ذَكَرَ رَبُّنَا ﷻ المُسَارَعَةَ فِي الخَيْرَاتِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَلَى جِهَةِ الثَّنَاءِ وَعَلَى جِهَةِ الأَمْرِ؛ فَقَدْ قَالَ ﷻ فِي سُورَةِ المُؤْمِنُونَ: ﴿أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.
وَمَنْ تَدَبَّرَ فِي الآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ وَجَدَ دَلالَةً عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي يَصِلُ بِهَا الإِنْسَانُ إِلَى مَقَامِ المُسَارَعَةِ، بَلْ يُجَاوِزُهُ لِيَكُونَ فِي مَوْضِعِ السَّبْقِ مِنَ المُسَارِعِينَ؛ فَاسْمَعُوا – أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ – إِلى الآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ تَعْرِفُوا السَّبِيلَ الَّذِي بِهِ وَصَلُوا، يَقُولُ الحَقُّ ﷻ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ | وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ | وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ | وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾، فَبِهَذِهِ الصِّفَاتِ الأَرْبَعِ الَّتِي خَلَصَتْ بِهَا قُلُوبُهُمْ للهِ وَصَلُوا إِلَى الغَايَةِ ﴿أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.
فَالبِدَايَةُ تَطْهِيرُ القَلْبِ، وَالغَايَةُ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَحُسْنُ ثَوَابِ الآخِرَةِ؛ لِيَكُونَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ».
أَقولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيمُ.
وهنا: خطبة عن لذة العبادة
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ﷺ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَتْبَاعِهِ المُقْتَفِينَ آثَارَهُ وَخُطَاهُ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَلْنَنْظُرْ كَيْفَ أَنَّ رَبَّنَا جَلَّ جَلالُهُ ذَكَرَ المُسَارَعَةَ إِلَى الخَيْرَاتِ عَامَّةً؛ فَدَخَلَ فِيهَا كُلُّ خَيْرٍ، وَشَمِلَتْ كُلَّ مَعْرُوفٍ، إِلاَّ أَنَّنَا نَجِدُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عِنْدَ الأَمْرِ بِالمُسَارَعَةِ ذِكْرًا لِأَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ؛ لِتَكُونَ تِلْكَ الأَعْمَالُ عَلامَةً عَلَى رَجَاءِ بُلُوغِ ذَلِكَ المَقَامِ، وَالطَّمَعِ فِي الوُصُولِ إِلَى تِلْكَ الغَايَةِ، يَقُولُ اللهُ ﷻ: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، فَاسْمَعُوا إِلى تِلْكَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الجَلِيلَةِ ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
وَقَدْ يُخْطِئُونَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ سُرْعَانَ مَا يَسْتَغْفِرُونَ؛ فَكَانَتِ الصِّفَةَ الخَاتِمَةَ لِتِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُ الحَقِّ ﷻ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
فَاجْتَمَعَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الصِّفَاتُ الأَرْبَعُ الجَامِعَةُ؛ فَكَانَ الجَزَاءُ ﴿أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِالمُسَارَعَةِ، بَلْ كَانُوا مِنَ السَّابِقِينَ؛ فَكَانُوا أَمَامَ المُسَارِعِينَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: ﴿أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾، نَعَمْ ﴿وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.
وَمَنِ السَّابِقُونَ؟ إِنَّهُمْ أَهْلُ الدَّرَجَاتِ العَالِيَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ قَبْلَ غَيْرِهِمْ فَقَالَ فِيهِمْ: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ | أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ | فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾.
هذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ الأَمِينِ، فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ بِذَلكَ حِينَ قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.