من جديد نلتقي مع موضوع خطبة الجمعة القادمة بتاريخ ٢١-٢-٢٠٢٠ ميلادية، والتي حددتها وزارة الأوقاف المصرية بعنوان السنة ومكانتها في التشريع، في أوقاف أون لاين awkafonline.
خطبة الجمعة القادمة ٢١-٢-٢٠٢٠
الحمد لله رب العالمين الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، ونزل إلينا من القرآن ما هو شفاء، ونعوذ به جل وعلى من جهد البلاء، وشماتة الأعداء، ونسأله أن يمتن علينا بعيش السعداء، والرضا بالقضاء، والشكر على السراء، والصبر على البلاء، وأن يحشرنا مع الصديقين والنبيين والشهداء.
ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، ونشهد أن سيدنا وحبيبنا محمد عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه ومصطفاه وسيد الخلق، وأصلى وأسلم عليه وعلى آله المكرمين، وأصحابه الغر المحجلين، ومن تبعهم وسار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أيها الأخوة المسلمون إن الله عز وجل خلقنا وقدر لنا أن نحيا في تلك الحياة بين الفتن والابتلاءات والمحن، يُختبر صبرنا، ويُختبر علمنا، ويٌختبر إخلاصنا لله عز وجل وإيماننا، ويُختبر التزامنا واتباعنا لمنهج الله ومدى حرصنا على السير وفق مراده وما يرضاه، وما كان الله عز وجل ليحيطنا بكل تلك الاختبارات دون أن يدلنا على منابع الهدى، وسبل الرشاد، ودون أن يبين لنا الحق من الباطل، والهدى من الضلال، لم يكن الله عز وجل يختبرنا دون أن يزودنا بعلم منهجه ويبين لنا طريق السير إليه، فكان هدية الله عز وجل لأهل الأرض، كتاب مبين، وسراط مستقيم لا عوج فيه ولا زيغ يقول عز وجل في مطلع سورة الكهف: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ﴾، ويقسم عز وجل في سورة الواقعة أن كتابه كريم عظيم محفوظ بعين الله عز وجل على مر الزمان فيقول: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، ولم يقتصر كتاب ربنا عز وجل على كونه مصدراً للتشريع و تبياناً لمنهج الحق والهدى، ودليلاً في طريق السير إلى الله، ولا كونه مرشداً يقودنا إلى سعادة الدنيا والآخرة فحسب بل جعل فيه شفاء لما في الصدور، وعافية للأبدان، وبركة تحل ببني الانسان فتكشف الهموم والغموم، وتشفي المبتلى وتجبر المكلوم يقول جل وعلى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (٨٢).
ولم يقف عطاء ربنا ولا هديه لنا عند إنزال القرآن الكريم علينا بل شاء ربنا عز وجل أن يتم علنا نعمه ويتم لنا ديننا فأجرى على لسان نبينا ما نستعين به على فهم كتابه، وما يبين لنا مبهمه، وما يفصل لنا مجمله، فكانت سنة النبي المطهرة التامة الكاملة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها المصدر الثاني للتشريع الإسلامي المصدر الذي يلى كتاب الله عز وجل مباشرة، وقد بين لنا الله عز وجل في كتابه مكانة سنة نبيه، ودافع عنها ونفى عنها الخطأ أو الباطل، وأكد أن سنة النبي “صلى الله عليه وسلم” انما كانت محض وحي وإلهم من الله عز وجل، فقال عز وجل: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى.).
وكانت شهادة الله عز وجل لنبيه وبيان صدقه فيما يبلغ عن ربه تقتضي الأمر بطاعته فقال جل وعلى في سورة الأنفال: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}، وقال في موضع آخر من السورة ذاتها: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُون}، ويقرر الله عز وجل في محكم التنزيل أن طاعة الله عز وجل لا تكتمل ولا تتحقق إلا بطاعة نبيه العدنان، بل أن طاعة الله مرهونة ومشروطة بالامتثال لأوامر نبيه وتبني منهجه والسير وفقاً لما تبينه سنته، فيقول في ذلك المعنى في بعض آيات سورة النساء: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً).
وقد جعل الله عز وجل الأمر باتباع نبيه والنزول على طاعته والولاء لسنته أمراً مطلقاً فيقول في الآية السابعة من سورة الحشر: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ }، وهذا الأمر شامل جامع لأصول الدين وفروعه، ظاهره وباطنه، يتعين على المسلمين الأخذ به، ولا تجوز مخالفته ولا رده ولا القدح فيه، ولم يتوقف الأمر باتباع النبي عند هذا الحد بل جعله الله عز وجل علامة من علامات محبته وصدق العبد في إيمانه، واكتمال تسليمه لله عز وجل فقال في أمر صريح ومباشر لا يحتمل التأويل ولا التبديل في أمر لرسوله الكريم: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وكل ما أسلفناه من الأدلة والشواهد برهان على حجية السنة ومكانتها المطهرة في التشريع الإسلامي وأنها مصدر أساسي للتشريع، وقد أجمع جمهور علماء المسلمين على ذلك، فمن زعم غير ذلك فهو مدع أفاق، لا سند له ودليل بين يديه، وهو بذلك منشق عن جماعة المسلمين، مخالف لإجماعهم، لأنه يخرج عن منهج الإسلام في الطاعة ومفهومها والالتزام والاخلاص وقد قرر القرآن الكريم تلك الحقيقة فنفى عن كل من يعارض سنة النبي أو يخالفها، أو يرفض التسليم لها وبها فقال الله عز وجل: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)، فوالله الذي نفسي بيده لو لم يأت القرآن إلا بهذا التقرير لكان كافياً ودامغاً، ورادعاً عن الجدل في ما يخص مكانة السنة النبوية المطهرة وشرفها وعظمتها، وأهميتها وحاجتنا نحن المسلمين لها لنستهدي بها ونستضيء بنورها الذي امتد عبر الأزمنة وبقي وسيبقى خالداً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إلا أن الله عز وجل لم يشأ أن يجعل للعصاة أو أصحاب الشبهات والمزاعم الباطلة حجة، ولم يشأ أن يترك لهم عذراً يعتذرون به أو يتمسكون به فقال محذرا لهم عن مخالفة نبيه : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
لك هُنا أيضًا: الهجرة غير الشرعية والحفاظ على الأنفس
أقول قولي هذا وستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى شمس الضحى، وبدر الدجى، وأصحابه نجوم الهدى ومن بهم اهتدى، ثم أما بعد:
فإننا ذكرنا سلفاً ما جاء في القرآن الكريم من تقرير لمكانة السنة النبوية المطهرة، وإعلاء لها، وإقرار رباني قرآني لا يقبل الرد ولا الجدل ولا المناقشة أنها تبيان للقرآن واكتمال لفضله، وبيان لهديه، لا تنفصل عنه ولا تخالفه ولا تتعارض معه، بل تبينه وتوضح أسراره وكنوزه، وتفصل مجمل أوامره ونواهيه، وتعلمنا تفاصيل ما فيه من أمور عبادتنا، وما نختلف عليه من قضايا ديننا ودنيانا، وبقى أن نبين وصية نبينا “صلى الله عليه وسلم” لنا، وكيف أنه كان يعلم أنه سيأتي علينا زمان تثار فيه الشبهات حول سنته، ويتصدى الضالون المضلون للتقليل من شأنها أو التكذيب بما ورد فيها، أو القدح في مسلماتها، فأوصانا بالتمسك بها أيما توصية وحذرنا من تركها أو الركون إلى غيرها أيما تحذير والآثار النبوية الواردة في هذا الصدد أكثر من أن تعد، وأعمق وأعظم من أن تحد، ومما قاله نبينا “صلى الله عليه وسلم”: ما رواه الحاكم في “المستدرك” (٣١٨) من طريق إِسْمَاعِيل بْن أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: ( … إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ).
وقد جاء كلام النبي “صلى الله عليه وسلم” موافقاً لما جاء به القرآن الكريم، ومقرراً له ومؤكداً عليه، فبين أن طاعته من طاعة الله عز وجل ومعصيته هي معصية لله عز وجل فقال في بعض أحاديثه الشريفة: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله)، وقد نهى النبي “صلى الله عليه وسلم” عن الجدال والاختلاف على سنته أو مسلمات ديننا، وبين أن في هذا ما فيه من فساد الدين والدنيا، وسوء العاقبة، فاشتغال المسلمين بإثارة الشبهات والرد عيها والمقارنة بينها، والاختلاف والمراء بشأنها، والتطرق إلى أمور لم ترد في سنته “صلى الله عليه وسلم” ولم يذكرها، والسؤال عما لا يعنينا ولا يفيدنا العلم به، يهدر أوقاتهم وطاقاتهم ويشتتهم عن قضايا الدعوة وأصولها، ويشغل عقولهم عن العبادات وعن البناء والإصلاح والتقدم، وهذا ما يتنافى تماماً مع ما يدعوا إليه ديننا وترتضيه سنة نبينا، وقد عبر عن سوء العاقبة التي تنتج عن هذا الخلاف بالهلاك فقال “صلى الله عليه وسلم” : في حديث أبو هريرة “رضي الله عنه”: (ذروني ما ترَكتُكم فإنَّما هلَك الَّذينَ من قبلِكم بِكثرةِ مسائلِهم واختلافِهم على أنبيائِهم ، ما نَهيتُكم عنهُ فاجتَنبوهُ وما أمرتُكم بِه فافعلوا منهُ ما استطعتُم).
هذا وقد بلغ من تشديه “صلى الله عليه وسلم” على اتباع سنته وعدم الخروج عنها، أو الاتيان بما لم تقتضيه أو تأمر به، انه تبرأ ممن يخرج عن سنته، أو يتنكر لها، وجعله بمثابة الخارج عليه المتمرد على دعوته، فقال قولة لو وعاها المحدثون للقتن، والمرددون للشبهات، والذين يقدحون في مسلمات عقيدتنا ويتهمون منهجنا لكفوا عن فعلهم، وتوقفوا فوراً عن زعمهم وعادو إلى رحاب نبيهم وسنته الغراء خاضعين مستسلمين تائبين من كل ذلك، حيث يقول”صلى الله عليه وسلم”: (من رغب عن سنتي فليس من)، فما أقساه من عقاب وما أقبحه من مصير.
هذا ولو أننا وقفنا عند السنة النبوية المطهرة وقدرناها حق قدرها، وأوليناها من العناية والبحث ما يقودنا لكنوزها ويكشف لنا عن مكنوناتها وجواهرها ودررها وأسرارها، لاستقامت حياتنا وانصلح بهديها حالنا، ولذقنا من نعم الدنيا والدين ما لا يتصوره عقل ولا يقف عليه خيال، فالسنة النبوية تعلمنا أدب الخلاف، وأدب البحث عن الحق، وتقودنا إلى الإقرار بالحقوق والواجبات، وتضع عنا أوزار الهموم والمتاعب والمشقات التي كلفنا بها أنفسنا، وحملناها على عاتقنا بجهل منا.
السنة ومكانتها في التشريع
نسأل الله العظيم أن يصلح حالنا وأعمالنا، ويهدينا إلى إعلاء السنة ومكانتها في التشريع وينجينا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأقيموا الصلاة.