خطبة الجمعة اليوم، بعنوان المرأة مكانتها ودورها في بناء الشخصية. سنضع لكم خطبتنا هذه التي نتمنّى ان تسهم في إثراء فِكركم ومعلوماتكم في إلقاء الخطبة.
مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي خلق أدم وسواه، وخلق من ضلعه انثاه، وجعل بينهما ومودة ورحمة وسكناً، والحمد لله أن عمر الكون بحواء وبنات حواء، وأن قيض لنا منذ المهد أما تكون بها أسباب الحياة، ورزقنا بأخوات يجمعن شمائل العطف والحنان، وأتم علينا الفضل بزوجات يرافقننا الدرب وتهون معهن رحلة الحياة.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها وجعل بيننا مودة ورحمة، والصلاة والسلام على رسول الله نبيه وحبيبه من خلقه ومصطفاه، ومن كانت المرأة آخر وصاياه، وعلى آله وصحبه وتابعيه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، ثم أم بعد:
فقد اقتضت حكمة الله عز وجل ورحمته حين خلق آدم “عليه السلام” وأسكنه الجنة أن يخلق له من ضلعه مؤنساً وشريكاً، ليكمل معه مسيرته التي ما كانت لتكتمل إلا بحواء عليها السلام، زوجته ورفيقته، ولتتحقق سنة الله من خلق آدم عليه السلام وحكمته التي تكمن في عمارة الكون بالذرية، وعمارة الأرض بالتكاثر وبث صور الحياة فيها، فبعد أن خلق الله آدم “عليه السلام” من تراب خلق من ضلعه حواء “عليها السلام” وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأنس إليها وأعجب بها، ثم كان بعد ذلك أن رزقا الذرية وبدأت بهما عمارة الحياة، يقول الله عز وجل في سورة النساء: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ) وقد ذهب المفسرون إلى أن الآية الكريمة تثبت خلق آدم عليه السلام أولاً ثم خلق حواء وقد بينت السنة أنها خلقت من ضلعه، ثم كان منهما خلق البشر جميعاً.
ولعل خلق حواء من ضلع آدم إن دل فإنما يدل على أهمية دورها وعظمة مكانتها، فإن الله لم يترك آدم وحيداً بل رزقه بحواء لتسانده وتعينه وتشاركه.
ولقد عانت المرأة على مر العصور في الجاهلية من ألوان التهميش والظلم والقسوة، ونكران أهميتها واختصار رسالتها، حتى جاء الإسلام واعترف لها بالمكانة الكبيرة والفضل العظيم في بناء المجتمعات وصلاحها، وكرمها أيما تكريم وأوصى النبي ﷺ الرجال بها في جميع مراحل حياتها، ونسب إليها الفضل في الصلاح والإصلاح، ولعل من مظاهر تكريم الإسلام للمرأة أن جعل النساء شقائق الرجال واهتم بها منذ اللحظات الأولى، فالفتاة منذ ولادتها محاطة بأوامر الرعاية والحماية وحفظ الحقوق، فعلى وليها إطعامها وتربيتها وصيانة عرضها وتعليمها وقد أوصى الآباء بحسن العشرة للبنات وحسن التربية ورغب فيه ببيان الثواب العظيم المعد لفاعله في أكثر من حديث نبوي شريف، فقال في حديث أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته كن له حجابًا من النار يوم القيامة)، ويقاس على ذلك من عال أخواته أو عمات و خالات فأحسن عشرتهن، كذلك ما جاء في حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ إذ قال: قال رسول الله ـ ﷺ ـ: (مَنْ وُلِدَتْ له ابنةٌ فلم يئِدْها ولم يُهنْها، ولم يُؤثرْ ولَده عليها ـ يعني الذكَرَ ـ أدخلَه اللهُ بها الجنة )، ثم ما جاء في حديث عائشة “رضي الله عنها” إذ قالت: ( دخلتْ امرأةٌ معها ابنتانِ لها تسأَل (فقيرة)، فلم تجدْ عندي شيئًا غيرَ تمرةٍ، فأَعطيتُهَا إيَّاها، فَقَسَمَتْهَا بينَ ابنتيْها ولم تأكُلْ منها، ثم قامتْ فخرجتْ، فدخلَ النبيُّ ـ ﷺ ـ علينا فأخبرته، فقال: من ابْتُلِي من هذهِ البناتِ بشيٍء كُنَّ لهُ سِترًا من النار) رواه البخاري، ثم ما ورد عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ ﷺ ـ قال: ( مَن عال ابنتينِ أو ثلاثًا، أو أختينِ أو ثلاثًا، حتَّى يَبِنَّ (ينفصلن عنه بتزويج أو موت)، أو يموتَ عنهنَّ كُنْتُ أنا وهو في الجنَّةِ كهاتينِ ” وأشار بأُصبُعِه الوسطى والَّتي تليها ) رواه ابن ماجه وصححه الألباني، ولعمري فإن في تلك الأثار ما يكفي لحمل كل ولي أو معيل لبنات أن يحسن إليهن ويربيهن ويكرم نزلهن أملا في الحصول على الثواب المعد لذلك.
هذا في طفولة المرأة وصباها أما في نضجها وشبابها وحين تصبح زوجة فإن التكريم لها أمر مطلوب والإحسان إليه خلق مأمور به، والصبر عليها والرفق بها واجب على الزوج، وسترها وعفتها حق لها، وقد ضرب النبي ﷺ أروع المثل في حسن العشرة للنساء وعلم الأمة كيف يكون التعامل معها واحتواء ضعفها، وأكد ذلك في أكثر من موضع، لعل من أهمها ما جاء من توصيته بالنساء يوم الوداع، وفي هذا ما فيه من الدلالة على تكريم المرأة وتقديسها حتى أن النبي يذكرها ضمن آخر وصاياه فقال: (استوصوا بالنساء خيراً)، وقال في بعض أحاديثه: (رفقاً بالقوارير) فقد شبه النبي النساء بالقوارير لضعف البنية ورقتهن، وقيل لأنه يسهل كسرهن ولا يسهل جبرهن، ومن ذلك أيضاً حديث أبي هريرة “رضي الله عنه” الذي جاء في صحيحي البخاري ومسلم: أن النبي “ﷺ قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً”.
أما حين تصبح أماً فقد أمر بتكريمها وبرها وحسن معاشرتها أمراً يرقى إلى الفرضية والوجوب وقد جعله تالياً مباشرة للأمر بتوحيده عز وجل وإفراده بالعبودية فقال جل وعلى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا).
ومن مظاهر التكريم أيضاً أن ساوي بن الرجل والمرأة في الثواب والعقاب، فمن أحسن منهما له الثواب ومن أساء فعليه العقاب، وقد ظهر ذلك في الحدود وفي فضائل الأعمال، فلم يحابي الرجل على المرأة أو يجزل له العطاء دونها، أو يضاعف له الأجر وحده، بل إن جميع الأحاديث الواردة في فضائل الأعمال المخاطب به الرجال والنساء بينت الفضل عموماً، يقول جل وعلى في محكم التنزيل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
كذلك ساوى بينهما في المسؤولية عما يحملان من أمانة الرعاية لمن يقع تحت ولايتهما، و يولي الرجل المسؤولية وحده بل حمل مسؤولية الأسرة ورعاية الأبناء والقيام بشؤونهم وتربيتهم على الوجه الذي يرضي الله عز وجل للمرأة كالرجل فقال رسول الله “ﷺ”: (كلُّكم راعٍ ومَسؤولٌ عن رَعيَّتِه؛ فالإمامُ راعٍ ومَسؤولٌ عن رَعيَّتِه، والرَّجلُ في أهلِه راعٍ وهو مَسؤولٌ عن رَعيَّتِه، والمرأةُ في بيتِ زَوجِها راعيةٌ وهي مَسؤولةٌ عن رعيَّتِها).
أعطى الإسلام المرأة الحق في الاختيار للزوج ولم يسلبها هذه الصلاحية، فهي تستأذن ويراعى رأيها ما لم يخالف رأي الولي، ومما دل على هذا المعنى حديث عائشة حين جاءت إليها فتاة فأخبرتها أنّ أباها أجبرها على الزواج بابن أخيه، وهي له كارهةً، فأجلستها عائشة “رضي الله عنها” إلى حين قدوم رسول الله ﷺ، فلمّا جاء أخبرنه بما حصل، فدعا رسول الله “ﷺ” والد الفتاة، وأخبره أن يجعل الأمر إليها، فقالت الفتاة: (قد أجَزتُ ما صنَعَ أبي ولَكِن أردتُ أن تعلَمَ النِّساءُ أن ليسَ للآباءِ منَ الأمرِ شيءٌ)، كذلك قول النبي ﷺ : (الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الخلق وخاتم المرسلين ثم أما بعد: فإننا لا زلنا بصدد الحديث عن مكانة المرأة التي كفلها لها الإسلام ولا زلنا نستعرض مظاهر تكريمها، فقد أمعن الإسلام في تكريم المرأة وإعلاء مكانتها فجعل لها ذمة مالية مستقلة عن الرجل، وترك لها الحق في إدارة أموالها بالطريقة التي تراها، بل أمر الرجل بالإنفاق عليها وتولي شؤونها وكفالتها مالياً حتى وإن كانت ذات ثراء ومال، ونهى أن يؤخذ من مهرها شيء إلا برضاها فقال عز وجل في محكم التنزيل: ( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)، وفي حالة الرغبة في اتخاذ زوجة ثانية لا يجوز أخذ شيء من صداق الأولى مهما بلغ فقال: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً).
أما حقها في الميراث فيما تركه الأب أو الزوج أو الابن فقد كفله لها الإسلام وبينه، ولم يتركه لأمر الرجل ولا رغباته ولا تقديره، لينصفها بذلك ويوفيها حقها الذي ظل مهضوماً ومستنكراً طوال عصور الجاهلية وفي الكثير من الثقافات والمجتمعات، يقول الله عز وجل في بعض آيات سورة كريمة حملت اسم النساء، وجاءت شاملة لحقوقهن مبينةً لأحكامهن: (لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾.
ولعل كل مظاهر التكريم والاحترام للمرأة التي منحها لها الإسلام إن دلت فإنما تدل على الإقرار بأهمية وجود المرأة، مكانتها ودورها في بناء الشخصية بل المجتمع بأسره، ولا غرو فإننا لو أمعنا النظر لوجدنا أن مقاليد التربية وبناء الشخصية معظمها وأهمها بيد الأم فهي أول من يتلقى الابن قيمه على يديها، وهي من يتعرف من خلالها على البيئة المحيطة به، فيستحسن ما تستحسنه ويستنكر ما ستستنكره، وينشأ على ما تنشؤه عليه، فإن أصلت فيه قيم الصدق والمراقبة والإخلاص نشأ صادقاً مراقباً لله في السر والعلن، مخلصاً لله في القول والفعل، وإن نشأته كريماً معتاداً على البذل والعطاء والجود، كان كذلك، وإن أصلت فيه قيم العبادة والطاعة ومخالفة الهوى سهل عليه الالتزام فيما بعد، وإن أصلت فيه من الأخلاق غير ذلك فعلمته الأنانية أو أجازت له استباحة الحقوق، والاحتجاج بالباطل واستمراء الظلم نشأ على هذه الأخلاق.
ومن ثم فإن المجتمعات هي افراز ما تجود به الأمهات من القيم والمبادئ، فابن اليوم بما يحمله من القيم وما يعتنقه من المفاهيم والمعتقدات والتوجهات، هو زوج الغد وهو أب الغد وسيواصل تعامله مع زوجته وتربيته لأبنائه انطلاقاً مما رسخ في نفسه وتبلور في خاطره وعقله وقلبه، لذا فإن أثر الأم والمرأة لا يتوقف على أبنائها فقط بل يتعداهم ليشمل أجيالاً تأتي بعدهم ومجتمعاً كاملاً يحتكون به ويؤثرون فيه بوعي أو دون وعي، ولله در القائل:
الأم مـــدرســـة إذا أعــددتــهــا
أعـددت شـعباً طـيب الأعـراق
الأم روض إن تــعـهـده الـحـيـا
بــالــري أورق أيــمــاً إيـــراق
الأم أســتــاذ الأســاتـذة الألـــى
شـغـلت مـآثـرهم مــدى الآفـاق
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.. وأقيموا الصلاة