خطبة الجمعة الثانية من شوال تكون الثانية بعد انقضاء شهر رمضان، ولذلك؛ فقد وجدنا أنه مِن الفِطنة والكياسة أن يكون عنوانها: أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل. لييكون هناك استمرارية لحَث الناس على مزيد من الجهد والجِد في العبادة والمداومة عليها.
مقدمة الخطبة
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي دَعَانَا إِلَى مَرْضَاتِهِ، وَرَزَقَنَا مِنْ طَيِّبَاتِهِ، وَآتَانَا مِنْ خَيْرَاتِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، دَعَانَا إِلَى اسْتِقْبَالِ طَاعَاتِهِ وَاجْتِنَابِ مُخَالَفَاتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، خَيْرُ رُسُلِهِ وَأَفْضَلُ مَخْلُوقَاتِهِ، ﷺ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَتْبَاعِهِ الْمُسَارِعِينَ إِلَى مَغْفِرَةِ اللهِ وَجَنَّاتِهِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى، فَمَنِ اتَّقَاهُ كَانَ لَهُ الْجَزَاءُ الْأَوفَى ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى | وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى | فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾.
الخطبة الأولى
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ خَيْرَ الْعَمَلِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ، وَكَمْ مِنْ عَمَلٍ قَلِيلٍ دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ فَكَانَتْ ثَمَرَتُهُ وافِرةً وَثَوابُهُ عَظِيمًا، وَانْظُرُوا في أَمْرِ مَنْ يَحْفَظُ آيَةً وَاحِدَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ كُلَّ يَوْمٍ؛ فَإِنَّهُ سَيَجِدُ نَفْسَهُ قَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ عَامًا، وَمَا أَسْرَعَ ذَهَابَ الْعُمْرِ وَانْصِرَامَ السِّنِينَ! وَقَدْ يَسْتَقِلُّ الإِنْسانُ الصَّدَقَةَ بِرِيالٍ وَاحِدٍ فِي وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْخَيْرِ، أَوْ جَمْعَ مَالٍ لِيَعْمَلَ بِهِ صَدَقَةً جَارِيَةً، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْمُتَصَدِّقَ يَجِدُ نَفْسَهُ قَدْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللهِ ثَلَاثَمِئَةٍ وَسِتِّينَ رِيالًا فِي عَامٍ، وَثَلاثَةَ آلاَفٍ وَسِتَّمِئَةٍ فِي عَشْرِ سَنَواتٍ.
وَلِذَلِكَ دَعَانَا نَبِيُّنَا الْكَرِيمُ ﷺ أَلَّا نَحْقِرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، فَالْقَلِيلُ يَكُونُ بِالْمُدَاوَمَةِ كَثِيرًا، وَالصَّغِيرُ يَكُونُ كَبِيرًا، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ يَكْثُرُ، وَالصَّغِيرَ يَكْبُرُ، وَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ دَاوَمَ عَلَى دِرَاسَةِ عِلْمٍ سَاعَةً كُلَّ يَوْمٍ، وَجَدَ نَفْسَهُ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ إِتْقَانًا لِذَلِكَ الْعِلْمِ بَعْدَ سَنَواتٍ.
وَلِذَلِكَ كَانَ لِزَامًا عَلَى الإِنْسَانِ – عِبَادَ اللَّهِ – أَنْ يَجْعَلَ لِنَفْسِهِ نِظَامًا يَسِيرُ عَلَيْهِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَجَدَ بَرَكَةً فِي الْوَقْتِ، وَأَثَرًا فِي الإِنْجَازِ، وَاسْتَطَاعَ أَنْ يَعْمَلَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، مَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَهَا، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ رَجُلًا خَرَجَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، فَرَأَى مِنْ نَفْسِهِ عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدِّرَاسَةِ، فَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَعُودَ إِلَى بَلَدِهِ، وَفِي طَرِيقِهِ مَرَّ بِبِئْرٍ، فَرَأَى كَيْفَ أَنَّ الْحَبْلَ أَثَّرَ فِي صَخْرَةِ الْبِئْرِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا، حَتَّى كَادَ يَشُقُّهَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الطَّالِبِ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الشَّيْءِ تُؤَثِّرُ فِيهِ، فَرَجَعَ مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ لِمُوَاصَلَةِ الدَّرْسِ وَالْاسْتِمْرارِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَدَاوَمَ عَلَى التَّعَلُّمِ حَتَّى نَالَ حَظًّا مِنَ الْعِلْمِ، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ – أَهْلَ الْإِيمَانِ – غَرَّهُ عَقْلُهُ وَذَكَاؤُهُ، وَحِفْظُهُ وَفَهْمُهُ، وَرَأَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَثِيرِ اجْتِهَادٍ فِي عِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ؛ فَلَبِسَ لِبَاسَ الْكُسَالَى، وَرَكِبَ مَرْكَبَ التَّسْوِيفِ، حَتَّى مَضَتِ السَّنَواتُ، وَفَاتَتْهُ الْفُرَصُ، وَتَجَاوَزَهُ الزَّمَنُ، وَوَجَدَ نَفْسَهُ خَلْفَ الرَّكْبِ، وَتَقَدَّمَهُ مَنْ كَانَ خَلْفَهُ، وَصَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مَسَافَاتٌ، وَبَعُدَتِ الشُّقَّةُ، فَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّحَاقَ بِهِمْ يَحْتَاجُ إِلَى زَمَنٍ طَوِيلٍ.
وَلِذَلِكَ كَانَ أَهْلُ الاجْتِهَادِ حَقِيقِينَ بِالْجَوَائِزِ لِاجْتِهَادِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَتَفَوَّقُوا أَوَّلَ الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ اجْتِهَادَهُمْ حَقِيقٌ بِأَنْ يُقَدِّمَهُمْ وَيَجْعَلَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُوْلَى بَعْدَ حِينٍ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُخْبِرًا أَنَّ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِيهِ لَنْ يُضِيعَ عَمَلَهُمْ، وَلَنْ يُذْهِبَ جُهْدَهُمْ ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
إِلَّا أَنَّ الكَيِّسَ – أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ – مَنْ لَا يَفْقِدُ الْأَمَلَ، بَلْ يُحَاوِلُ أَنْ يُصْلِحَ حَالَهُ، وَيُدْرِكَ مَا فَاتَهُ، فَيُهَيِّئُ حَالَهُ وَيُنَظِّمُ وَقْتَهُ، وَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، فَيَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ طَالِبًا الْوُصُولَ، وَمَنْ سَارَ عَلَى الدَّرْبِ وَصَلَ، وَرُبَّ تالٍ سَبَقَ الْمُتَقَدِّمَ، وَقَدْ يَكُونُ هُنَاكَ مَنْ فَرَّطَ فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَضَيَّعَ شَيْئًا فِي الْفَرَائِضِ، وَاجْتَرَحَ شَيْئًا مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَفَاتَهُ كَثِيرٌ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَبَلَغَ حَدَّ الإِسْرافِ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَنِطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَمَا كَانَ لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَقْنَطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُنَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيَقُولُ لَهُمْ ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
وَمَا عَلَيكَ إِلَّا أَنْ تُنِيبَ إِلَى اللهِ، وَتَتَّبِعَ أَحْسَنَ مَا أَنْزَلَهُ إِلَيكَ، فَإنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ نِلْتَ مَقَامَ الْمَغْفِرَةِ، وَبَلَغْتَ حَدَّ الرِّضَا، وَمَنْ ذَا الَّذِي لَا يُخْطِئُ، وَلَكِنْ هُنَاكَ مَنْ يُخْطِئُ وَيَتُوبُ، وَهُنَاكَ مَنْ يُخْطِئُ وَيُصِرُّ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْمُخطِئَيْنِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»، «والتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ».
أَقَوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ، إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّه هُوَ الْبَرُّ الْكَرِيمُ.
ولا تفوتكم: خطبة ماذا بعد رمضان مكتوبة ومؤثرة
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ﷺ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَبْرَارِ الْمُهْتَدينَ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ – عِبَادَ اللَّهِ – وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ اسْتِقْبَالَ الطَّاعَةِ؛ فَإِنَّ الصَّالِحِينَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ عَمَلِ خَيْرٍ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي آخَرَ، فَلَا يَخْتِمُونَ الْقُرْآنَ إِلَّا وَيَبْدَؤُونَ بِهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُونَ بِصَدَقَةٍ إِلَّا وَيَسْتَقْبِلُونَ أُخْرَى، وَلَا يَعْمَلُونَ مَعْرُوفًا إِلَّا وَيَدُهُمْ عَلَى مَعْرُوفٍ آخَرَ، وَتِلْكَ هِيَ الْمُسَارَعَةُ فِي الْخَيْرَاتِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ، وَحَلَّى بِهَا أَصْفِيَاءَهُ، وَأَمَرَ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ، قَدْ دَفَعَهُمْ إِلَى الْمُسَارَعَةِ وَجَلُهُمْ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ عَمَلِهِمْ، وَإِنَّ مِنَ الْخَوْفِ مَا يَكُونُ نَجَاةً وَطَرِيقًا إِلَى الْفَوْزِ الْعَظِيمِ.
فَخَوْفُ الطَّالِبِ مِنَ الْفَشَلِ دَفَعَهُ إِلَى الْمُرَاجَعَةِ، وَخَوْفُ الْعَامِلِ مِنْ فَوَاتِ الْأُجْرَةِ دَفَعَهُ إِلَى إِتْقَانِ الْعَمَلِ، وَخَوْفُ قَائِدِ الْمَرْكَبَةِ مِنْ فُقْدَانِ السَّيْطَرَةِ عَلَيهَا دَفَعَهُ إِلَى الانْتِباهِ.
وَقَدْ قَالَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي شَأْنِهِمْ ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ | أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.
وَقَدْ صَوَّرَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الْمَعْنَى الْعَظِيمَ فَقَالَ: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ». وَإِنَّهُ لَمِنْ مَظَاهِرِ التَّوْفِيقِ أَنْ يَكُونَ الإِنْسَانُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضانَ أَحْسَنَ حَالًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ رَمَضانَ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُهُ فِي شَهْرِ رَمَضانَ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ، وَقَدْ نَادَى اللهُ أهْلَ الْإِيمَانِ فَقَالَ لَهُمْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
هذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ الأَمِينِ، فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ بِذَلكَ حِينَ قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
وإلى هنا نكون قد قدَّمنا لكم خطبة الجمعة الثانية من شوال: أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل. نسأل الله ﷻ أن ينفعنا وإياكم بما وفَّرنا وقرأتم.
وهنا تجِد أيضًا: خطبة عن الإنفاق في سبيل الله.. من وقف أو صدقة أو زكاة