عناصر الخطبة
- الإسلام دين يربي أبناءه على معاني العزة والكرامة من خلال تعزيز ثقة المسلم بربّه ﷻ، فمن علم أن له ربّا ينصر أهل الحق ويذلّ أهل الظلم والعدوان، اطمأنت نفسه، وقويت إرادته.
- الثقة بالله ﷻ من أسباب النصر والتمكين في الدنيا والفوز بجنات النعيم في الآخرة، لأن الثقة تعزز الإيمان، وتحث على الإعداد المستمر والعمل الدؤوب لتحقيق معنى الاستخلاف.
- ثقتنا بربنا ﷻ مقرونة دائماً بالدعاء والتضرع لله ﷻ بأن يرفع عن الناس جميعاً الوباء وخير الدعاء هو سيد الاستغفار الذي دعا به يونس عليه السلام، والمواظبة على قراءة آخر آيتين من سورة البقرة.
الخطبة الأولى
الإسلام دين عظيم يربي أبناءه على معاني الثقة بالله ﷻ، والتمسك بالمبادئ الإسلامية القويمة، لأن الثقة بالله ﷻ ترسخ العقيدة الصحيحة في القلب، وتحفز صاحبها على الاجتهاد والسعي في شتى مجالات الحياة، فيصير المؤمن الواثق بربه الملتزم بهذه القيم إنساناً قوياً في نفسه، مطمئنا لوعد ربّه، فلا تثنيه العقبات، ولا تحبطه نوائب الدهر، بل هو قوي الإرادة، عزيز النفس، يعمل ويجتهد، ويُخلص نيته لله ﷻ، ثم يطمئن إلى أن الله ﷻ لن يضيع أعماله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ الكهف: 30.
والثقة بالله ﷻ نعمة من أعظم النعم على المسلم، وهي مستمدة من وعد الله ﷻ للمؤمنين بأنهم هم الذين يعمرون الأرض ويدافعون عن قيم الحق والعدل، قال الله ﷻ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55]،
فبينت الآيات الكريمة العلاقة الوثيقة بين إيمان الإنسان وبين ثقته بربه والإعداد المستمر والعمل الدؤوب لتحقيق معنى الاستخلاف، فإذا تكاملت هذه الأركان في قلب المسلم وجوارحه، هيأ الله له أسباب التمكين والنصر في الدنيا، والفوز العظيم في الدار الآخرة.
فليست الثقة مجرد كلمات لا تتجاوز اللسان، بل الثقة أعمال وأفعال، واستعداد لمواجهة العقبات وتخطيها، والتضحية في سبيل الله ﷻ، فشعار المؤمنين في الحياة هو ما يردده في كل ركعة من صلاته ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5].
وهذا هو سبيل من أنعم الله ﷻ عليهم وهداهم الصراط المستقيم، لذلك لا بدّ أن تكون الثقة بوعد الله ﷻ وتأييده ملازمة للمؤمن في جميع أحواله، في شدته ورخائه، وفي قوته وضعفه، لأن الواثق بالله ﷻ لا يهتز يقينه ولا يتزعزع إيمانه مهما اشتدت الظروف وصعبت الأحوال، قال الله ﷻ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُل وَظَنُّوا أَنَّهُم قَد كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّي مَن نشَاء ولَا يُرَدّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف: 110].
وقد تجلّت أسمى معاني الثقة بالله ﷻ في نبينا الكريم ﷺ وهو في غار ثور، كان محاطاً بالمشركين من كل جانب، وكان أبو بكر الصديق خائفاً على رسول الله ﷺ من هول الموقف يقول: “لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ”، غير أن ثقة نبينا ﷺ بربه وهو يخاطب صاحبه بقوله: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّك بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا» ← متفق عليه.
وما ذكرى غزوة الخندق التي كانت في شهر شوال عنا ببعيد، حين تهافتت الأحزاب على المدينة من كل جانب يريدون حصارها وسلب أرضها، والقضاء على المسلمين فيها، وقام المنافقون يخذِّلون الناس، ويكذبون بشارات النبيّ ﷺ بالفتوح الإسلامية وانتشار نور الإسلام، ويلقون في قلوب الناس الهزيمة والخوف والتخاذل، قال الله ﷻ يصف هذا الموقف الهائل: ﴿إِذْ جَاءُوكُم مِن فَوْقِكُمْ وَمِن أَسْفَل مِنْكُم وإِذ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ و بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وتَظُنُّون بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: 110-111].
ومع كل تلك الصعاب التي واجهها النبي ﷺ وصحابته الكرام، ورغم نكث اليهود لعهدهم واجتماع الأمم على قتالهم، إلا أن ثقة النبي ﷺ وأصحابه بالله ﷻ كانت ثابتة، وهم مؤمنون بقول الله ﷻ: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ الصافات: 171-173.
هذا وعد الله ﷻ لعباده المؤمنين، ولا يزال لنا وعد ننتظر تحقيقه في المستقبل، وكلنا ثقة بربنا ﷻ: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ الإسراء: 7.
⬛️ أيضًا؛ هنا خطبة: الثقة بالله ﷻ.. شعار المؤمنين
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
لا تزال ثقتنا بربنا ﷻ مقرونة دائماً بالدعاء والتضرع لله ﷻ بأن يرفع عن أن أمتنا وجميع الناس الأوبئة والأمراض وأن يعافي المرضى ويرحم الموتى، فنسأله وندعوه يخير دعاء وسيد الاستغفار هو دعاء يونس عليه السلام، فعَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى؟ الدَّعْوَةُ الَّتِي دَعَا بِهَا يُونُسُ حَيْثُ نَادَاهُ فِي الظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ». فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ كَانَتْ لِيُونُسَ خَاصَّةً أَمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ” أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَ اللَّهِ ﷻ: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 88]. ” وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ دَعَا بِهَا فِي مَرَضِهِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً فَمَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ أُعْطِيَ أَجْرَ شَهِيدٍ، وَإِنْ بَرَأَ بَرَأَ، وَقَدْ غُفِرَ لَهُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ» ← المستدرك على الصحيحين.
فعلينا أن نلتزم بهذا الدعاء ففيه دعاء واستغفار وفيه تسبيح وفيه إحسان وقرب من الله ﷻ وإظهار فقر وفاقة إلى الله ﷻ، ثم في المساء بيّن النبي ﷺ بين أن من قرأ آخر آيتين من سورة البقرة كفتاه ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ البقرة: 185-186.
فهذا الدعاء صباحاً ومساءً مع الدعاء والاستغفار حفظ وحرز ليس فقط لشخص وإنما للأمة كلها.
والحمد لله ربّ العالمين..