لدينا اليوم من الجمال نفحة، نعم؛ انها خطبة الجمعة مكتوبة وكاملة، موضوعها يتمحوَر حول أهمية التوكل على الله وأثره على المتوكلين، وعظيم الأجر والثواب والجزاء في الحياة الدنيا وفي الآخِرة.
وكما عوّدناكم في ملتقى الخطباء والدعاة بموقع المزيد، الخطبة مكتوبة ومشكولة الآيات، ومعززة بالأحاديث النبويَّة المُشرَّفة.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين، يعطي ويمنع، ويحب المتوكلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي المؤمنين.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، إمام الشاكرين والصابرين، ﷺ، وعلى آله وصحبه وأتباعه المؤمنين الصادقين.
الخطبة الأولى
أما بعد، فاتقوا الله تكونوا من المفلحين، يقول -تعالى- في سورة يوسف {إِنَّهُ مَنَّ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
أيها المؤمنون؛ إن الإنسان لا يمكن أن يعيش في هذه الحياة الدنيا من غير أن يكون له ملجأ يلجأ إليه، ولا أن يتجاوز غمراتها من غير أن يكون له مفزع يفزع إليه، وقد خلقت هذه الدنيا ذات يسر وعسر، ورخاء وشدة، وسعة وضيق، وغنى وفقر، وسراء وضراء {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ}.
ولا يمكن للإنسان أن يحيا في هذه الدنيا من غير أن يتقلب في هذه الأضداد، ويتنقل في هذه الأغيار {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}، بل يطول الابتلاء أحيانا ويمتد الاختبار، فيبقى الإنسان يقلب وجهه في السماء منتظرا الفرج، والله -تبارك وتعالى- يرى تقلب وجهه {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء}.
وأحيانا يبلغ الأمر -عباد الله- بالإنسان أنه يستبطئ الإجابة، ويطول انتظاره كشف السوء {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
وقد يتجاوز الأمر الاستبطاء إلى القنوط؛ وليس بعد الشدة إلا الرخاء؛ فيتنزل الغيث، وتنتشر الرحمة؛ فيكون ذلك الغيث غيثا للقلوب قبل الأرض، وتكون تلك الرحمة شفاء للصدور قبل الأبدان، ولا يقدر على ذلك إلا الله، فيوقن الإنسان أن الله -وحده لا شريك له- هو الملجأ، وأن الله – وحده لا شريك له – هو المفزع {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}، وهو الذي {يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، وهو الذي {يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ}، وهو {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}.
يا أيها الذين آمنوا: إن اللجوء إلى الله – جل جلاله- في الشدائد، والفزع إليه في الضراء، هو أثر من آثار التوكل على الله وثمرة من ثمراته، فالتوكل على الله صفة قلبية، وسجية نفسية لها أثر، وظهور ذلك الأثر مؤشر لوجود تلك الصفة، وغياب الأثر دليل على انطماسها؛ كما أن الضياء في الكون دال على وجود الشمس، والنور دال على وجود القمر.
والتوكل على الله فطرة فطر الله الناس عليها؛ فالتوكل من الإيمان، بل إن التوكل هو الإيمان، وليس هناك قول يقرب هذه الحقيقة إلى الأذهان من قول النبي ﷺ: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».
إلا أن تلك الفطرة -عباد الله- يطمسها البعد عن الله، ويذهبها انغماس الإنسان في الآثام والخطيئة، فإذا جد الجد واضطر الإنسان إليها لم يجدها؛ فانهار أمام الشدة، ولم تحمله قدماه عند العسر، ولم تسعفه نفسه على تحمل البلاء؛ أولئك الذين يعبدون الله على حرف؛ فتلحقهم خسارتان، وتصيبهم مصيبتان، وتجده كالذي يتخبطه الشيطان من المس: مرة يلجأ إلى إنسان، ومرة يفزع إلى حيوان، وتارة إلى شجر، وتارة إلى حجر، وما أبدع تصوير القرآن لأصحاب هذا المرض القلبي والأزمة النفسية في آيات ثلاث، لن تقوم مقامها مجلدات ولا مئات الصفحات.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ | يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ | يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء والمرسلين ﷺ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن المنطوية قلوبهم على التوكل على الله تجدهم في طمأنينة، قوية نفوسهم أمام الشدائد، صلبة أفئدتهم عند المصائب، ثابتة أقدامهم في البلاء، مربوطا على قلوبهم في الضراء؛ فإن فاتهم شيء من متاع الدنيا لم يفتهم ما عند الله {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، وما كان الله ليضيع إحسانهم في الدنيا، فحسبهم نعمة الشكر والصبر، ونعم أخرى لا تحصى، وحسبهم محبة الله، وماذا بعد محبة الله ورضاه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.
فطوبى لهم نجاحهم في الاختبار الرباني {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}.
وقد وجه الله الخطاب إلى المتوكلين عليه بأسلوب بدايته رفق ولين، وأوسطه بشارة، ونهايته صلوات من ربهم ورحمة وهداية؛ فقال لهم أرحم الراحمين: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ | الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ | أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} وما قولهم: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، إلا ثمرة توكلهم، ونتيجة استعانتهم، وما حياتهم إلا بين نعمتين: نعمة الشكر ونعمة الصبر؛ ولذلك عجب النبي ﷺ من حالهم فقال: «عجبا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن».
وما كان لمن كان على هذه الصفة إلا أن ينقلب بنعمة من الله وفضل مهما كان قدر الشدة؛ فما أشبه حاله بحال من قال الله –سبحانه وتعالى– فيهم من: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ | فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم بذلك حين قال -في سورة الأحزاب– {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.
الدعاء
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعا مرحوما، واجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما، ولا تدع فينا ولا معنا شقيا ولا محروما.
اللهم أعز الإسلام واهد المسلمين إلى الحق، واجمع كلمتهم على الخير، واكسر شوكة الظالمين، واكتب السلام والأمن لعبادك أجمعين.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت سبحانك بك نستجير، وبرحمتك نستغيث ألا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أدنى من ذلك، وأصلح لنا شأننا كله يا مصلح شأن الصالحين.
اللهم ربنا احفظ أوطاننا وأعز ولاة أمورنا وأيدهم بالحق وأيد بهم الحق يا رب العالمين، اللهم أسبغ عليهم نعمتك، وأيدهم بنور حكمتك، وسددهم بتوفيقك، واحفظهم بعين رعايتك.
اللهم أنزل علينا من بركات السماء وأخرج لنا من خيرات الأرض، وبارك لنا في ثمارنا وزروعنا وكل أرزاقنا يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لكل من آمن بك، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعاء.