وها نحن مُجددًا مع خطب الجمعة استهدادًا للشهر الفضيل. فقد أتيناكم وبحوزتنا خطبة مكتوبة عن التوبة قبل رمضان. ونصائِح غالية ثمينة لاستقباله بفرحة واستبشار بمغفرة الرحيم الرحمن ﷻ. وكيف لا يكون هذا هو الوقت المناسب لمثل هذه الخُطَب المباركة ونحن في أواخر شهر شعبان وبصدد استقبال أول أيام شهر رمضان المبارك! فهذا هو أنسَب وقت لإلقاء خُطَب تحث الناس على التوبة لله رب العالمين قبل استقبال شهر الصيام والقيام.
وقد تعوّدنا وعوّدناكم هنا في ملتقى الخطباء وصوت الدعاة بموقع المزيد على تزويدكم بما تنشدون من خطب ودروس علم ومحتوى محاضرات تثرون به عقولكم وذاكراتكم، ثم تنفعون بها عوام المسلمين وطلبة العلم والمصلون والحاضرون لصلاة التراويح ينتظرون دروسكم لينهلوا منها العلم والفضل.
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه. صلى الله عدد ما صلّى عليه المصلون وذكره الذاكرون.
أما بعد؛ فيا عباد الله ﴿اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
الخطبة الأولى
عباد الله؛ تمضي الأيام والأشهر والأعوام. ويتفضَّل المُنعم ﷻ على عباده بمواسم الخيرات. ومنها شهر رمضان المبارك.
أيها المسلمون؛ إن نِعَم الله ﷻ على العباد كثيرة ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾. ومنها أن أعمار هذه الأُمة قصيرة، ولكن أعطاهم المولى ﷻ من مواسم الخيرات ما يسبقون به الأُمم السابقة.
نعم، فالمسلمون يدركون مئات السنين بفضل الله ﷻ، بمواسِم الخيرات والبركات.
أيها المصلون؛ إن من نِعَم الله على العبد أن يمُن عليه بإدراك هذا الشهر الكريم. أسأل الله الكريم أن يمُن علينا جميعا ببلوغه وأن يعيننا على صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيه عنا. وأن يجعلنا فيه من المقبولين المرحومين الفائزين.
كان رسول ﷺ يُبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان كما جاء في سنن بسند صحيح. كان يقول رسول الهدى ﷺ «أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم».
وفي قِصة الثلاثة الذين استشهد منهم اثنان وبقي الثالث فرُؤي في منزلة أعلى منهما. فأخبروا رسول الله ﷺ بذلك. فقال «أليس قد مكث هذا بعده سنة؛ وأدرك رمضان، فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة.. فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض».
إن إدراك شهر رمضان يفرح به المؤمنون الصادقون. كيف لا يفرحون؟ وقد قال حبيبنا ﷺ كما في الصحيحين «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».
قال القرطبي “رحمه الله”: سُمي رمضان لأنه يرمض السيئات؛ يكفر السيئات بالأعمال الصالحات.
نعم أيها المسلمون؛ يفرح المؤمن لأنه سيدرك هذا الموسم العظيم. هذا الشهر شهر الخيرات والبركات. إن هذا الشهر أيها المسلمون مِنَّة من رب العالمين. وقد اختص الله ﷻ ثوابه لنفسه، والعطية على قدر مُعطيها. قال الله ﷻ كما في الحديث القدسي «إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به».
أيها المسلمون؛ أقبَل عليكم شهر الخيرات والبركات، شهر إقالة العثرات، شهر إجابة الدعوات، شهر المسابقة والمنافسة بالخيرات، شهر تلاوة القرآن والصَّدقة والإحسان. فاستعدوا لذلك، واعقدوا العزم مع الله أن تستغلوا أيامه. لأنه ضيف عزيز، يأتي ثم يرحل سريعا.
تأملوا في السنة الماضية؛ بالأمس ودَّعنا رمضان. مضت الأيام وكم كان معنا في العام الماضي من كان يؤمِّل آمالا أنه سوف يعيش لسنوات طويلة، ويدرك رمضان ورمضان. أين هو الآن؟ تحت الثرى. كم دفنا أيها المسلمون بأيدينا من الأحباب والأصدقاء والجيران! كم فقد من الأعزاء على قلوبنا بهذه السنة! وهذه سُنَّة الله ﷻ ماضية.
فإذا أدرك المسلم هذا الشهر فعليه أن يتجه إلى الله بالحمد والثناء والشُّكر. يشكر ربه بلسانه، ويشكر ربه بقلبه، ويشكر ربه بعمله. ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.
اشكروا الله ﷻ أيها المسلمون باستغلال هذا الشهر بالعزيمة الصَّادقة على استغلاله والمحافظة على أوقاته وساعاته، لأنه سيمضي كغيره.
كيف نستقبل رمضان!
أيها المسلمون؛ مما يُستقبَل بهذا الشهر أن يراجع الإنسان نفسه، وأن يحاسب نفسه، وأن يتأمل بسرعة زوال الأيام. يقول علي بن أبي طالب “رضي الله عنه”: إن الدنيا ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة ارتحلت مقبلة. ولكل منهما بنون؛ فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا. فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.
نعم. الدنيا -أيها المسلمون- تمضي سريعة. قِف مع نفسك عبد الله. ماذا صنعت؟ وماذا قدمت لنفسك في هذا العام المنصرم؟. يقول الله ﷻ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
ويقول حبيبنا ﷺ «لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن عمره؛ فيم أفناه؟ وعن علمه؛ فيم فعل فيه؟ وعن ماله؛ من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه؛ فيم أبلاه؟».
اعتبروا أيها المسلمون، اعتبروا مرور الأيام. فكل لحظة تمر علينا تبعدنا عن الدنيا وتقربنا للآخرة. وإذا مضت لا يمكن أن تعود. والوقت -يا عبد الله- هو الخزينة التي ستفتحها يوم القيامة. الوقت هو رأس مالك إذا خسرته خسرت حياتك.
التوبة قبل رمضان
أيها المسلم، أعقد العزم بالتوبة الصادقة. ارجع إلى الله؛ فالتوبة هي فريضة العمر. نعم، الإنسان ليس بمعصوم من الخطأ والزلل. فقد قال حبيبنا ﷺ «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون». فإذا أدركت هذا الشهر الكريم فهذه نِعمة من الله ﷻ. انظر إلى تقصيرك في حق الله ﷻ، في حق العباد. انظر إلى سمعك وإلى بصرك وإلى جوارحك ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾.
تُب إلى الله ﷻ. واعلم بأن الله ﷻ يحِب التائبين ويحث على التوبة. قال الله ﷻ ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
قيدتكم ذنوبكم
واعلموا -يا عباد الله- أن الذنوب سبب، وتحول بين الإنسان وبين طاعة الله. جاء رجل إلى الحسن البصري. قال: إني أجهز طهوري لأقوم الليل، لكني لا أستطيع. قال الحسن: قيدتك ذنوبك.
فالذنوب تمنع الإنسان من القيام بما يجب عليه. عليك أن تتخلَّص من الذنوب والسيئات يا عبد الله. لأن النبي المصطفى ﷺ قال «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون». حتى يسود القلب. لا يعرف معروفا ولا ينكر منك منكرا.
عبد الله؛ تذكر ساعة الفراق. تذكَّر أنك في يومٍ من الأيام ستُفارق الأهل والأحباب والأصحاب. تذكَّر أنك ستُحمل على الأعناق كما حملت غيرك. تذكَّر أنك ستُوضع في حُفرة مُظلمة موحشة لا انج فيها ولا جليس. إلا ما قدمت بعد رحمة الله ﷻ من الصلاة والصيام والدعاء وقراءة القرآن والتسبيح والتهليل والصدقة والإحسان والانكسار بين يدي الله ﷻ.
واعتبر بمن كانوا يجلسون معك. إذهب إلى المقابر وانظر إلى من تعرفهم من الأقارب والأصحاب؛ ذهبوا، وكان عندهم من الآمال.
فعليك يا عبد الله أن تتذكر هذه السَّاعة حتى تستقيم على طاعة الله وعلى أمر الله وتنزجر عن معصية الله.
اللهم بلغنا رمضان وأعِنا على صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك عنا يا رب العالمين.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا. لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا. وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد فيا عباد الله. اتقوا الله ﷻ حق تقاته. واعلموا -يا رعاكم الله- أن كل عبادة لا بد من أن يتوفر فيها شرطان أساسيان.
الشرط الأول: الإخلاص لله. والشرط الثاني: المتابعة لرسول الهدى ﷺ.
ولا يمكِن أن تحقق المتابعة إلا بالعلم الشرعي. تفقَّهوا -يا عباد الله- بأحكام الصيام لا سيما بالمفطرات، وما ينقِص أجر الصيام.
على الإنسان إذا أقْبَل شهر رمضان أن يحتسب الأجر وأن يقرأ بفقه الصيام وأحكام الصيام. لا سيما -كما قلت- الأشياء التي تنقص الأجر أو التي تفطر الصيام؛ خاصة بعض العلاجات التي يحتاج إليها المريض. فعلى الإنسان أن يتفقه في دين الله حتى تقع العبادة في محلها، وحتى لا يحصل عنده خلل في عبادته، وفي الواجب الذي أوجبه الله ﷻ عليه.
واتجهوا إلى الله ﷻ، وأكثروا من الاستعانة بالله ﷻ. فهو المُعين. وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله. أي: لا قوة لك يا عبد الله ولا قدرة لك بالصيام والقيام إلا بالله ﷻ. ولا قدرة لك على ترك معصية الله إلا بقوة الله وعزته وجبروته ﷻ.
وقد أوصى النبي ﷺ معاذا، فقال «يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك».
أكثروا من هذا الدعاء، لا سيما قبل السلام وبعد الصلاة.
فمن أهل العلم -كشيخ الإسلام- يرى أنه يقال قبل السلام. ومن أهل العلم من يرى أنه يقال بعد السلام. فعلى حال أن يكثر الإنسان من هذا الدعاء لأن المعين هو الله. والله ﷻ وعد بالإجابة لمن دعاه.
الدعاء
اسأل الله ﷻ أن يعيننا وإياكم على صيام رمضان وقيامه. وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين الفائزين المرحومين.
اللهم بلغنا رمضان. اللهم بلغنا رمضان. وأعنا على صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك عنا يا رب العالمين.
اللهم كما أكرمتنا بهذه النعمة فأكرمنا بشكرها بالقول والعمل يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر وإذا ابتُلي صبر وإذا أذنب استغفر.
اللهم أعنا على ذكرك وعلى شكرك وعلى حسن عبادتك.
اللهم يا من ترانا وتسمع كلامنا وتعلم سرنا ونجوانا. استعملنا فيما يرضيك.
اللهم حبب إلى قلوبنا الطاعات وأعِنا على فعلها. وكَرِّه إلى قلوبنا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم احفظنا بحفظك وارعنا برعايتك وعنايتك
اللهم اجمعنا بأعلى الجنان مع سيد الأنام.
اللهم صَلِّ وسلم وتفضل وبارك وأنعم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كانت هذه خطبة مكتوبة عن التوبة قبل رمضان. وجمع من دُرر النصائِح حول استقباله والعمل فيه بما يُرضي الله ﷻ.
ألقى هذه الخطبة الشيخ د.عبدالعزيز الفايز؛ فجزاه الله هنا وعمّن ينتفع بهذه الخطبة المباركة من المسلمين خيرًا.