عناصر الخطبة
- رؤيا الأنبياء عليهم السلام حق، وسيدنا إبراهيم قد استجاب لأمر الله ﷻ لذبح ولده إسماعيل، فكان الفداء بِذِبْحٍ عظيم. (إنّا كذلك نجزي المحسنين).
- التضحية في سبيل الله ﷻ مطلبٌ عظيم، تتطلب من المؤمنين طاعة الله ﷻ وطاعة رسوله ﷺ وأولي منهم.
- سنّة الأضحية التي سنّها سيدنا إبراهيم عليه السلام باقيةً إلى يوم القيامة تذكّر الأمّة الإسلامية بالتضحية في سبيل الله ﷻ.
- يسّر الله لنا في هذا اليوم أداء صلاة عيد الأضحى، وصلاة الجمعة، مما يذكرنا بأن نجدد العهد مع الله ﷻ على الطاعات وترك المخالفات، والإكثار من دعاء تفريج الكروب، دعاء يونس عليه السلام (لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين).
الخطبة الأولى
إن ديننا الحنيف يأمرنا بالاعتصام بحبل الله جميعاً، وينهانا عن التفرّق والاختلاف، وقد شرع لنا الاجتماع والتعارف، والاتحاد والتآلف، وفي هذا اليوم العظيم اجتمع للمسلمين مناسبتان عظيمتان، عيد الأضحى الذي يقول فيه النبي ﷺ: «إن أعظم الأيام عند الله ﷻ يوم النحر، ثم يوم القرّ» ← سنن أبي داود. ويوم الجمعة المبارك، يقول النبي ﷺ: «إن هذا يوم عيد، جعله الله للمسلمين، فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل، وإن كان طيب فليمس منه، وعليكم بالسواك» ← سنن ابن ماجه.
وقد جعل الله ﷻ أفضل القربات في هذا اليوم المبارك هو تقديم الأضاحي استذكاراً لتلك الذكرى الطيبة التي تمثّل التضحية في أبهى صورها، فها هو الخليل عليه السلام يُمتحن بأعز ما يملك، ويُختبر بفلذة كبده، فيرى رؤيا متكرّرة في منامه أنه يذبح ابنه اسماعيل عليه السلام، ورؤيا الأنبياء حقّ، فيهبّ الخليل ملبّيا أمر ربه ﷻ بعد أن بلغ ولده إسماعيل مرحلة الشباب التي يعتمد فيها الوالد على ولده، ويصبح عونه ومساعده، ولكن الابن البارّ يستجيب لأمر الله ﷻ بنفس مطمئنة، وقلب راضٍ، وانقيادٍ مطلق قال الله ﷻ: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102].
إنه امتحان ما أشدّه، وابتلاء ما أعظمه، اجتازه الأب والابن عليهما السلام مع مراتب الشرف العليا، حيث أدركت رحمة الله الأبَ المكلوم والابن البارّ، وهنا تظهر معادن الرجال، فيُفتدى الابن بكبش من الجنّة، يقول ﷻ: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الصافات: 107-111، لتبقى سنّة الأضحية سنّةً باقيةً إلى يوم القيامة مذكّرةً الأمّة جمعاء بالتضحية التي خطّ فصولها الخليلُ وابنُه عليهما السلام.
إنه درس يعلّم الأجيال بأنه لا علو إلا بالالتزام بأمر الله، ولا كرامة إلا بالتضحية في سبيل الله، وأن الحياة الكريمة تكون بالصبر والرضى بقدر الله.
وإنما يكون المؤمن مؤمنا حقاً بالتسليم لله ﷻ، والانقياد لأوامره، وعدم التردد في طاعته، ومخالفة الهوى إخباتاً لمراده، وشكراً على نعمه، يقول ﷻ: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) الحج: 34.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) آل عمران:102.
نستشف من معاني التضحية التي قدمها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ومعاني الفداء التي جزاهما الله ﷻ بها، وخلّد ذكرهما لأجلها على مرّ الأجيال، بأن الله ﷻ جعلهما قدوة للمسلمين فقال ﷻ: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) الحج: 78، وقال ﷻ: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) الممتحنة: 40، وذلك حتى يُقدم المسلم على التضحيات العظيمة في سبيل الله، فيضحي بمعاصيه وذنوبه، ويضحي بشهوات النفس وحظوظها وميلها واستسلامها لملذات الحياة، فمن انتصر على معاصيه وشهواته وانتصر على شيطان نفسه ووساوسها، انتصر في جميع معارك الحياة.
قال ابن عباس رضي الله عنه ورفعه إلى النبي ﷺ: لما أتى إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه وسلامه المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونِ وَمِلَّةَ أَبِيكُمْ تَتبْعُونَ» ← المستدرك على الصحيحين.
ويقدم القرآن الكريم لنا صورتين توضحان هذا المعنى، فهذا نوح عليه السلام ينادي ابنه لما فيه حياته ونجاته، ويدعوه للالتحاق بمركب الصالحين الفائزين عند الله ﷻ، فيقول له: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) هود: 42، ولكنّ ابنه استسلم لمعاصيه وشهواته وأبى الانقياد لله ﷻ، فكانت النتيجة: (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) هود: 43.
وأما إبراهيم عليه السلام، فيقدم ابنه لله ﷻ، برضى واستسلام وانقياد لأمر الله ﷻ، فكانت النتيجة هي الحياة والرضى والقرب من الله ﷻ، والانتصار على شهوات النفس وملذاتها، وليصبح إسماعيل عليه السلام ذلك الشاب الصابر المحتسب، هو قدوة لجميع الشباب من بعده، ومثالاً لهم في الالتزام والتقوى.
والحمد لله رب العالمين..