ومع هذه المباركة التي هي من الأهميَّة بمكان. إنها خطبة عن التسول. نعم؛ هذه الظَّاهرة التي انتشرَت كالنَّار في الهشيم في مجتمعاتنا العربيَّة والإسلامية. نسوقها إليكم مكتوبة ومعززة بالآيات القرآنية، والأحاديث النبويَّة، والمواعظ الحسنة.
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله ﷻ من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نتخذها ليوم الدين؛ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله ﷻ بقلب سليم.
وأشهد أن سيدنا وعظيمنا وحبيبنا وقدوتنا وقرة أعيننا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله. أدى الأمانة وبلغ الرسالة. نصح الأمة ومحا الله به الجهالة والظلمة. تركنا على المحجة البيضاء الواضحة الغراء ليلها ونهارها سواء. صلوات ربي وسلامه عليه. صل عليه يا ربي عدد الحصى في أرضها. وصل عليه يا ربي عدد النجوم في سمائها. وصل عليه يا ربي عدد الحيتان في مائها. صلاة وسلاما دائمين متلازمين تلازم الليل والنهار إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
ثم أما بعد؛ معاشر المؤمنين أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
إِذا أنتَ لم ترحَلْ بزادٍ من التقى — ولاقيْتَ بعد الموتِ من قد تزودا
نَدِمتَ على أن لاتكونَ كمثلِه — وأنك لم تُرصدْ لما كان أرصدا
﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾. ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ﴾.
ثم أما بعد؛ روى الإمام البخاري في صحيحة من حديث حكيم بن حِزام “رضي الله عنه” قال: أتيت النبي ﷺ يوما فسألته مالا فأعطاني. ثم سألته مرة أخرى فأعطاني. ثم سألته فأعطاني. ثم قال لي النبي «يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارَك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى».
هكذا يعلمنا -معاشر المؤمنين- حبيبنا ﷺ كيفية التعفف عن المسألة والتسول. يعلمنا الحبيب ﷺ ألا نقف بساحة العبيد بل نقف بساحة الله العزيز الحميد.
بل لقد بايع النبي ﷺ نفر من قومه أو نفر من أصحابه. بايعهم في بداية الدعوة. بايعهم على أمر غريب عجيب. اسمعوه يا عباد الله. لتعلموا أن الإسلام قد حرم المسألة، لتعلموا أن الإسلام جاء ليحفظ كرامة الوجه، لتعلموا أن المسلم ينبغي أن يعتز بنفسه وأن لا يتكلم إلا لخالقه ومولاه، لتعلموا أن الإسلام يحرم التسول، يحرم التحايل، يحرم المال الحرام.
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عوف بن مالك الأشجعي “رضي الله عنه” قال: كنا عند رسول الله ﷺ تسعة، أو ثمانية، أو سبعة. فقال لنا النبي «ألا تبايعون رسول الله؟». يقول عوف بن مالك: وكنا حديث عهد ببيعة. قال: فقلت: قد بايعناك يا رسول الله.. فكررها أو أعادها ثلاث «ألا تبايعون رسول الله؟» قال: فبسطنا أيدينا. وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال الحبيب: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا. ﴿قال: وأسر النبي بكلمة خفية.. يعني بهمس، بصوتٍ خافت﴾، ولا تسألوا الناس شيئا.
هل سمعت أيها المتسول؟ هل سمعت يا من تطلب الناس؟ يا من تُلِح، يا من تتحايل، يا من تكذب. هل سمعت يا من تتحايل وتطلب وتتسول بعاهتك وبزوجتك وبأولادك. هل سمعت قول الحبيب.
ثم قال عوف: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدا يناوله إياه.
أضرار التسوّل
إخواني؛ قد انتشر التسول في مجتمعنا كانتشار النار في الهشيم. من هنا يتبين لنا -معاشر المؤمنين- أن المسألة لا تجوز إلا للحاجة. بل قال أهل العلم: أن التسول والمسألة في أصله حرام. هذا شيء حرام. قال: لما فيه من إظهار التذلل لغير الله ﷻ والشكوى من الله.
أقول لك: بربك، أنت أيها المتسول. أنا أخاطبك أيها المتسول. أخاطبك بلسان العقل؛ أنت تشكو من لمن؟ أنت تشكو رب العباد؟ تشكو من لمن؟ تشكو القوي للضعيف؟ تشكو الغني للفقير؟ تشكو الكبير للصغير؟ تشكو الخالق للمخلوق؟ تشكو الرازخ للمرزوق؟ هذه شكوى.
ولذلك روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أن نبينا ﷺ قال: «من سأل الناس أموالهم تكثرا، فإنما يسأل جمرا فليستقل، أو ليستكثر».
وأختم بهذه الأحاديث العظيمة التي تبين شناعة التسول، والمسألة لغير حاجة. فالحديث الأول يقول فيه النبي ﷺ «لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه فلا يكون له عند الله وجه».
والحديث الثاني يقول فيه رسول الله ﷺ «من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان».
والحديث الثالث يقول فيه الحبيب المصطفى ﷺ «ومن سأل الناس ليثري ماله كان خموشا في وجهه يوم القيامة ، فمن شاء فليقل ، ومن شاء فليكثر».
اللهم أرضنا، واستر عيوبنا، واغفر ذنوبنا، وارزقنا الحلال وبارك لنا فيه. اللهم باعد بيننا وبين الحرام كما باعدت بين المشرق والمغرب.
أقول ما تسمعون يا عباد الله. وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اكتفى.
ثم أما بعد. إخواني في كل البلاد العربية والإسلامية، لقد انتشر الغلاء والبلاء. وأصبَح الناس يكدون ويكدحون لأجل لقمة عيش. وعلينا أن نُبيّن للناس وأن نعمل نبدأ ونستمر بتوعية المجتمع بأضرار التسوّل الاجتماعية والاقتصادية والأمنية. وأن نُبيّن محاذيرها الشرعية حتى يعلم السائِل والمسؤول ماهيَّة الأمر، وكيف حثّ الإسلام علىطلب الرزق الحلال الطيّب.
كما يجب أن ننوّه ونؤكد على دور منسوبي المساجد في منع المتسوّلين من ممارسة التسوّل في الجوامع والمساجد، والساحات الخارجية المحيطة بهما. فإن كان التسوّل ظاهرة سيئة بالشوارع والطرقات وإشارات المرور، فهي كذلك وأكثر في بيوت الله.
الدعاء
أحبة رسول الله إني داعٍ فأمِّنوا..
اللهم اجعل جمعنا هذا مرحوما، واجعل تفرقنا من بعده معصوما، ولا تدع فينا ولا منا ولا بيننا شقيا ولا محروما.
اللهم اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم.
اللهم ارزقنا الحلال وبارك لنا فيه.
يا رب باعد بيننا وبين الحرام كما باعدت بين المشرق والمغرب.
اللهم احفظنا بالإسلام قاعدين. ولا تشمت فينا الأعداء والحاسدين.
يا رب اشف مرضانا؛ اللهم اشف مرضانا يا رب.
اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين. يا رب جازهم بالحسنات إحسانا، وبالسيئات عفوا وغفرانا. يا رب انقلهم من ضيق اللحود. ومراتع الدود إلى جناتك جنات الخلود.
عباد الله؛ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾. اذكروا الله العظيم يذكركم. واشكروه على نعمه وآلائه يزدكم. ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وقوموا إلى الصلاة يرحمني وإياكم رب العالمين.
وبعْد. فكانت هذه خطبة مكتوبة عن التسول (المسألة – سؤال الناس أموالهم). للشيخ عبد العزيز شهاب حفظه الله وبارك فيه وجزاه خيرا-.