مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي حث على التثبت والتأني، وجعل الوصول إليهما بالعمل لا بالتمني، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أكثر الناس حرصا على فعل الخير، وأبعدهم عما فيه ضر وشر، ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله في كل حين؛ فإن التقوى شعار المؤمنين، وهدي الصالحين، والموصلة إلى مرضاة رب العالمين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.
الخطبة الأولى
أيها المسلمون: اعلموا -جعلني الله وإياكم من المتثبتين- أن التأني في الأمور خير ما يحرص عليه العقلاء، ويتسابق إليه المؤمنون الأتقياء؛ لما له من فضل عظيم، وخير على الإنسان عميم، ولأجل هذا جاءت عناية القرآن الكريم به، وحضت السنة المطهرة عليه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، فأمرنا الله -تبارك وتعالى- أن نتبين في أمرنا، ولا نسير خلف كل زاعم لشيء ومدع؛ كي لا نتهم أحدا على جهل، ثم نندم ولات ساعة مندم.
ولكي لا يقع الإنسان في الخطأ جاء أمر القرآن بذلك قائلا: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾، وفيه دلالة واضحة أن يحرص الإنسان على الحديث فيما يعلم، وفيما يحسن، وألا يتكلم في شيء حتى يستيقنه؛ ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾، وهكذا أمر الإسلام بالتثبت عند وجود أي شبهة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، والمتأمل لقول النبي سليمان -عليه السلام- للهدهد: ﴿سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾، يجد فيه دليلا على أن التثبت أمر مهم محمود، وأن عدم فعله مذموم.
ولا يعزب عن ذهنكم -معاشر المسلمين- ما حفلت به السنة المطهرة من عناية بأمر الكلمة التي ينبغي أن يفكر فيها المرء قبل أن تخرج من فيه؛ فإنها قد تورده المهالك، جاء عنه ﷺ: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها، يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب».
أيها المؤمنون: إن من أهم ما ينبغي التثبت فيه نسبة أي شيء إلى الله، أو الحديث عن أي شيء بغير علم؛ فإن عاقبة ذلك خطيرة، وإتيانه معصية كبيرة ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
ومن ذلك التثبت في قبول الأخبار عن رسول الله، فقد جاء عنه -عليه أفضل الصلاة والسلام-: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»، وإن كانت نسبة شيء إلى النبي لا تكون إلا عن علم، فكذا نفي ثبوت شيء عنه ، لا ينبغي أن يكون بالتشهي واتباع الهوى، بل لا بد من أن يصدر عن علم، ويدخل في هذا الإفتاء بغير علم، أو إفادة الناس بغير علم، فقد جاء عنه: «من أفتى مسألة أو فسر رؤيا بغير علم فكأنما وقع من السماء فصادف بئرا لا قعر لها».
ومن صور التثبت المهمة التأني في إطلاق الأحكام على الناس، فقد جر ذلك إلى مزالق كثيرة، ووبال كبير، فلا يعجل المرء في الحكم على غيره، ولا يكن هذا له ديدنا إلا ما يرى فيه مصلحة الحكم على غيره غالبة، أما اتخاذ الحكم على الناس هواية يتلذذ بها، هذا صالح، وذاك طالح، فهو أبعد ما يكون عن الحكمة، والله المستعان.
إن عدم العجلة في نقل الأمور أمارة على عقل المرء، ودليل على حكمته ووعيه، ومما ابتلي به كثير من الناس اليوم المسارعة في نقل الأخبار في وسائل التواصل دون روية ولا تمهل، وكأن بعضهم في سباق حميم إلى نقل الخبر أولا، ونسوا -هداهم الله- حديث النبي ﷺ: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع».
فاتقوا الله -عباد الله-، واتخذوا التثبت في كل شيء صاحبا، والتأني قبل الإقدام على الأمور مركبا.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
هذه أيضًا ⇐ خطبة عن خطر تناقل الشائعات وأهمية الحذر منها وعدم ترويجها
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أكرمنا بالعقل، وجعله سببا للحكم الحسن والوعي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أحسن الناس عقلا، وأفضلهم قولا وفعلا، وعلى آله وأصحابه الطيبين، ومن سلك مسلكهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا معشر المسلمين: لقد حباكم الله نعمة العقل، وأكرمكم بحسن الفهم، وجعل من شكر نعمته استعماله فيما يفيد وينفع، كالتأني في الأمور، والإقدام بعد التفكير والتمحيص، وجعل له حكما وأسرارا، وفوائد وآثارا، فمن فوائده السلامة من الوقوع في الخطأ؛ فإن الإنسان كلما كان تريثه في الأمر أكثر كان ذلك مدعاة إلى أن يخرج الأمر صحيحا سالما من العيوب، ومن فوائده أنه داع إلى الثقة بأهل الإيمان، ودافع إلى حسن الظن بهم، قال تعالى: ﴿لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾، وإحدى فوائده المهمة أنه يقي النفس تأنيب الضمير الناشئ عن العجلة ﴿فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، ويعيش المجتمع الذي يحسن الظن ويتأنى ولا يعجل في طمأنينة وسكينة؛ لأنه لن يأتي الأمر دون علم، ولن يقدم عليه دون روية، ولن يفعله اتباعا لهواه، فيخرج مجتمع محب لغيره، حسن الظن به، لا يبحث عن عثراته، ولا يتتبع زلاته، هادئ متأن واع لما يأتي ويذر.
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن التثبت في الأخبار منهج الأخيار، وشعار أولي الأبصار.
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.