نحن اليوم على موعد من واحدة من خطب الجمعة القوية؛ بعنوان: الباقيات الصالحات. ومن العنوان تعرِف مدى عِظَم الموضوع وأهميته. وهذا بالفِعل ما ستراه واضحًا جليًا في الخطبة ومحتواها.
خطبتنا مكتوبة وجاهزة ومشكولة الآيات، وبها عظيم الحِكَم والمواعِظ والدورس، فانهلوا منها ما ينال استحسانكم وتنفعون به المسلمون.
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خير نبي أرسله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرا.
أما بعد؛ فيا عباد الله اتقوا الله ما استطعتم وأطيعوه فما أسعدكم إن أطعتم. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
ومن رواية شداد بن أوس تذكروا قول رسول الله ﷺ في حديث «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني».
ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وكل نعيم لا محالة زائل؛ إلا نعيم الجنة فإنه لا يزول أبدا.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم في أصحاب الجنة ﴿وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾.
الخطبة الأولى
يا معشر الإخوة، إن هنالك آية في سورة الكهف إذا مررتم بها فلا تمروا بها مسرعين مرور الكرام، ولكن قِفوا عندها وُقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التُّرْبِ خاتمُهْ.
هذه الآية التي أنزلها الله -تعالى- في سورة الكهف التي تقرؤونها كثيرا لا سيما في يوم الجمعة، هي قوله -سبحانه- ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا﴾.
المال والبنون
المال كل ما يتموّله الإنسان ويملكه من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث والريالات والدولارات والسيارات والعقارات وغير ذلك. كل ذلك مال.
وأما البنون فمعناه معروف. ولكن الله -تعالى- في كتابه الكريم يقدم المال على البنين في كل آيات القرآن الكريم لأن النفوس -في الغالب- تهفو إلى المال أكثر مما تهفو إلى الولد.
ولأن المال وُجِد قبل وجود البنين. وفي مثل هذا يقول الله -تعالى- في سورة التوبة ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ﴾. ويقول -سبحانه- في سورة المنافقون ﴿لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾. وفي سورة الأنفال والتغابن ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَة﴾.. وهكذا في سائر الآيات.
والاغتباط بالمال والبنين أمرٌ معروفٌ عند العرب وعند غيرهم. وفي ذلك يقول الشاعر المشهور طرفة بن العبد في معلقته المشهورة
فلو شاءَ رَبي كنتُ قَيْسَ بنَ خالِدٍ … ولو شاءَ ربي كنتُ عَمْرَو بنَ مَرثَد
فأصبحتُ ذا مال كثيرٍ وزارني … بنونَ كرامٌ سادة ٌ لمسوّد
ما هي الزينة؟
هي ما يدخل على النفس من بهجة وسرور وجذلٍ وحبور. والزينة في العادة تكون ظاهرة؛ كالطلاء الذي يكون على الجدران الذي يزين البيوت، ولكنه يضمحل في يوم من الأيام، ويبقى الأساس متينا مكينا.
والله -تعالى- يُجبرنا بأن هذه الأشياء هي زينةٌ ظاهرة ولنا أن تزين بها، ولكن علينا أن نركز على أمر آخر. وهو ما ذكره الله -تعالى- بعد هذه الجملة في قوله ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا﴾.
وفي سورة مريم -التي هي بعد هذه السورة- يقول الله -تعالى- ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا﴾.
والباقيات الصالحات أصلها [الصالحات الباقيات]، هكذا يقول أهل التفسير. ولكنه خرج عن مقتضى الظاهر وقدَّم الباقيات للإشارة إلى أن تلك الأشياء السابقة -وهي المال والبنون- ليست بباقية، وإنما الباقيات هي الأعمال الصالحات.
ما هي الباقيات الصالحات
الصحيح أن الباقيات الصالحات هي كل الأعمال الصالحات، وإن كان هنالك من المفسرين من يخصص الباقيات ببعض المعاني:
١. فمنهم من يقول أنَّ الباقيات الصالحات هي الكلمات الطيبات التي يُهدى إليها المؤمنون؛ فيتكلمون بالكلام الطيب. والكلم الطيب يقبله الله -تعالى- ويرفعه. والله -تعالى- يقول عن المؤمنين ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾. ويقول لنا -سبحانه في سورة البقرة ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، وفي سورة الأحزاب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا﴾.
٢. وبعض المفسرين يقول إن الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس. وورد في حديثٍ -إسناده لا بأس به- أن الباقيات الصالحات -كما أوضحها عثمان بن عفان [رضي الله عنه]- هي: لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. فهذه الكلمات الطيبات هي من أحب الكلِم إلى الله -تعالى-؛ فاحرِص أيها المسلم على أن تقولها، فإنها رصيدك في الآخرة. وهي كلمات خفيفات على اللسان ولكنها ثقيلات في الميزان.
ولا ريب أن هذه الكلمات وسائر الكلمات التي هي من ذكر الله -تعالى- هي من الباقيات الصالحات.
٣. ومن المفسرين من يقول إن الباقيات الصالحات هُنَّ البنات. بدليل أنه ذكر في أول الآية المال والبنون. والبنون هم الذكور من الأولاد، وبقيت البنات؛ فأشار إليهِنَّ بهذه الإشارة على معنى أن البنات الصالحات إذا قام الآباء على تربيتهن وإصلاح شأنهن، فإنهُنَّ خيرٌ له عند ربه يوم القيامة.
وبدليل ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم، وهو «من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جدته كن له حجابا من النار يوم القيامة».
فهذا عملٌ قريب بين يدي الإنسان إذا كان له بنات. وهُنَّ نعمة وأي نعمة.
ومن الناس من يذهب بعيدا ويترك هذا العمل القريب، فيذهب إلى الأماكن البعيدة ليعمل من أجل أن يسلك طريقا يلتمس به الجنة؛ ويترك هذا الطريق الذي هو عنده، ويضيع من يعول ويضيع بناته، ويذهب إلى أماكن بعيدة ويلتمس طرقًا نائية ويترك هذا الطريق القريب الذي هو بين يديه.
فلا تغفل أيها المسلم عن هذا العمل الصالِح الذي جعله الله -تعالى- قريبا منك وبين يديك لتكون من الفائزين يوم القيامة.
خيرٌ ثوابًا وخيرٌ أملا
الإنسان يأمُل في هذه الحياة، وربما طال أمله ونسي الأمل في الآخرة وفيما عند الله. وفي هذا يرشدنا الله -تعالى- إلى أن ما يتعلَّق بالآخرة هو خير مردا وخير أملا.
ولكنه من عجائب الإنسان أنه كثير الحِرص وكثير الأمل على هذا الأمر الزائل، الذي يزول قريبا. وأنه ليشد العجب من الإنسان الذي ربما يكون قد بلغ التسعين من عمره ولكنه لا يزال طويل الأمل في أمر الدنيا، ويفكر في مشاريع وفي صفقات وفي أمورٍ كثيرة؛ ولا يشبع من هذه الحياة.
وهذا مصداقا لقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ﴿يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حب المال، وطول العمر﴾. وفي حديث صحيح آخر ورد في صحيحي البخاري ومسلم ﴿لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل﴾.
فيطول أمله ويحرص على الحفاظ على متاع هذه الحياة الدنيا الزائِلة، وتلك غفلة. ولكن الرجل اليقِظ المتنبه هو من يُسَخِّر هذه الأشياء لتكون له رصيدًا في الحياة الباقية.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي نبيه محمد النبي الكريم.
هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين؛ اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد على كل حال وفي كل حين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا. صلى الله عليه وعلى آله السادة الغُرر ما اتصلت عين بنظر وسمعت أذن بخبر.
يا معشر الإخوة؛ إذا فكر الإنسان في أمر هذه الحياة الدنيا وفي زينتها فإنه سوف ينتهي تفكيره إلى حقيقة واحدة، وهي أن كل شيء في هذه الحياة الدنيا مضمحل وزائِل وذاهب؛ إما بذهابك عنه وإما بذهابه عنك.
ومن العجيب أن الله -سبحانه وتعالى- ذكر لنا هذه الآية في موضعين من كتابه. وذكر لنا قبلها ما يؤكد هذا المعنى، إما أن يذهب عنك ما تملكه وإما أن تذهب عنه أنت.
فإن الله -تعالى- قال في آية سورة الكهف التي هي ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا﴾. ذكر قبلها قصة رجلٍ آتاه الله -تعالى- مالا وولدا ولكنه لم يكن من الشاكرين لنعمة الله -سبحانه وتعالى-، فعاقبه الله -تعالى- بأن أذهب عنه ما أعطاه.
هذا في آية سورة الكهف وهو مثلٌ ضربه الله -تعالى- لإنسان ذهب ماله عنه. ولكن الآية التي ذكرها الله -تعالى- في سورة مريم ضرب فيها مثلا لرجل كان له مالٌ وولد فأذهبه الله -تعالى- وأهلكه وترك ماله وولده.
والآية هي التي ذكرناها لكم من قبل وهي قوله -سبحانه- ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا﴾. وذكر بعدها قصة ذلك الرجل الكافر الذي كفر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو العاصي بن وائِل.
نزل فيه قوله -سبحانه وتعالى- بعد هذه الآية ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا﴾. فآتاه الله -تعالى- مالا وولدا، فافتخر بهذا المال والولد واغتر بهما ونسي الحياة الآخرة، وطغى وبغى، ولم يؤمن بهذا النبي الكريم الذي دلَّه على الجنة وعلى الخير. فأهلكه الله -تعالى- وترك ماله وولده.
فهذه هي الحقيقة التي اتفق عليها الفلاسفة والحكماء. وهي أن كل شيء في هذه الحياة مدته يسيرة وهو في آخر الأمر زائلٌ وذاهب ومضمحل، إما بذهابه عنك وإما بذهابك عنه.
الدعاء
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يُبَصِّرنا وأن يجعل قلوبنا متجهة إلى الآخرة وأن يجعل الدنيا في أيدينا وألا يجعلها في قلوبنا وألا يجعلها تصرفنا عن عبادته وطاعته.
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكَّاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم صل على محمد في الأولين والآخرين، وصل عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
خطبة الباقيات الصالحات
ألقى هذه الخطبة المباركة فضيلة الشَّيْخ عبد العزيز الحربي؛ فجزاه الله عنا كل خير.
فحواها: فصَّلت الخطبة القول في الباقيات الصالحات، وأوضحت قول العلماء في المراد بها، وسلَّطت الضوء على القيمة الهشَّة لزينة الحياة الدنيا الفانية، والقيمة الحقيقة للباقيات الصالحات وأعمال الخير جميعًا. وما يجب على المؤمن الكيّس الفَطِن أن ينتبه إليه ويعمل عليه لآخرته.