عناصر الخطبة
- أمرنا الله ﷻ بأمر عظيم بالاعتصام المتضمن النهي عن التفرق في قوله ﷻ: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)؛ فحريٌّ بالمسلمين أن يعتصموا بحبل الله ﷻ وأن يتمسكوا بهدي نبيه ﷺ والالتزام بما أمر به واجتناب ما نهى عنه اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا الجيل المثالي في الوجود حتى يرث الله ﷻ الأرض ومنْ عليها.
- أراد الله ﷻ لهذه الأمة أن تكون خير أمة أخرجت للناس تنشر قيم الحق والعدل والرحمة بين الأمم وهذه المهمة العظيمة تحتاج إلى أمة قوية واحدة ترفض الاختلاف والتفرق في كل أحوالها لتؤدي رسالة الإسلام العظيم.
- دعاء سيدنا يونس عليه السلام (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) دعاء عظيم يُعين على الاعتصام بحبل الله ﷻ، فقد تضمن التوحيد والتنزيه لله ﷻ مع الاعتراف بالذنب، وأمتنا في معتركها الحضاري المعاصر بحاجة إلى هذا الدعاء الذي يأخذ بمجامع القلوب وتلابيب العقول.
الخطبة الأولى
إن وحدة الأمة الإسلامية تكمن في اعتصامها بحبل الله ﷻ فإن هذا الاعتصام أصل أصيل في شريعتنا الإسلامية، تضافرت عليه الأدلة الشرعية والحجج العقلية حتى غدا أصلاً كلياً قطعياً لا يقبل نسخاً ولا تأويلاً، وذلك لأن الله ﷻ أراد لهذه الأمة أن تكون خير أمة أخرجت للناس في محبتها لله ﷻ ولرسوله ﷺ فتسود الأخوة بين المؤمنين ويعم التعاطف بينهم، قال الله ﷻ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ آل عمران: 103،
فلنعش مع الآية الكريمة، ونتدبرها بقلوبنا، فقد جمعت الأمر بالاعتصام المتضمن النهي عن التفرق، ومع ذلك صرحت بالنهي (ولا تفرقوا) لأن القرآن الكريم يخاطب العامة والخاصة، والعقل والعاطفة، فالتآلف بالوحدة نعمة من نعم الله السوابغ، تآلفت قلوب أجدادنا من الصحابة رضي الله عنهم، فلنجدد التآلف نحن معشر الأحفاد في هذا الزمان لننال الرضا من الله ﷻ في الدنيا بالاعتصام بحبله المتين، وفي الآخرة بدخول جنات النعيم.
ولا شك أن حياة الإنسان في دار الدنيا محفوفة بالمكاره والشهوات، فمن ﷻ على المكاره والشهوات صار من أهل الجنات ((حفت الجنة بالمكاره))، ومن وقع في الشهوات والملذات سقط في النار لأنها ((حفت بالشهوات))، كما أخبر النبي ﷺ «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» ← صحيح مسلم
لقد أراد الله ﷻ لهذه الأمة المسلمة أن يكون لها الريادة والقيادة لكل الأمم، وأن تكون عزيزة في ذاتها، مرهوبة الجانب، قوية قادرة على حماية دينها ومقدساتها وعقيدتها، وهذه المهمة تحتاج إلى أمة قوية كالبنيان المرصوص، ولن تكون كذلك إلا إذا كانت أمة واحدة، قال ﷻ: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ الأنبياء:92.
فهذه الأمة التي تعتصم بكتاب ربها ﷻ وسنة نبيها ﷺ لا تسمح للاختلاف ولا للتفرق أن يتسلل إليها فيوهن هيبتها، ويقلل من شأنها بين الأمم، وقديماً قيل: الاتحاد قوة والتفرق ضعف. وهذه حقيقة نراها بين الأمم والشعوب في واقعنا المعيش.
جاء الإسلام والعرب قبائل متفرقة متناحرة تقاتل بعضها بعضاً، فوحدهم الإسلام تحت عقيدة واحدة فجمع بين الأوس والخزرج الذين كانت بينهم حروب طاحنة لسنوات طويلة، ووحد صفوف المهاجرين مع اخوتهم الأنصار في إخوة لم تعرف لها الإنسانية في تاريخها مثيلاً، أخوة أساسها الانتماء للعقيدة والدين قبل العرق أو اللغة أو اللون الناس فيه سواسية، لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى، وتشكلت بهم نواة الأمة الإسلامية الكبيرة التي أخرجت للناس، فكانت هذه الأخوة وهذه الوحدة، وذاك الاعتصام بحبل الله المتين هو السبب في إخراج أمة عاشت في عزة ومجدٍ شامخٍ خضع لها جبين الدنيا بأسره، فسار المسلمون في الأرض يخرجون الناس من الظلمات إلى النور، ومن الرق إلى الحرية، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
وقد شبه النبي ﷺ المؤمنين بأنهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، فالنبي ﷺ حريص علينا (حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)، ومن حرص النبي ﷺ على أمته دعوتها إلى الاجتماع ونبد التفرق، فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» ← متفق عليه. ومثله قوله ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ شَيْءٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» ← صحيح مسلم.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ» ← رواه الترمذي.
ورحم الله ابن المبارك حيث قال: إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102.
يظهر لنا جلياً أهمية الوحدة بين المسلمين التي تنبثق من وحدة العقيدة في حياة المجتمع، فلن يكون للمسلمين دولة قوية إلا إذا تآلفوا، ولن يدفعوا عن أنفسهم الظلم إلا إذا تآخوا، ولن ينشروا دعوتهم أو يعيدوا مجدهم إلا إذا تآخوا، فبالأخوة والوحدة الإسلامية يتحد صفهم، وتثبت أقدامهم، وتعلوا هممهم، وتشد قوتهم، ويهزمون أعداءهم، ويأمنون على دينهم وأنفسهم وأعراضهم وديارهم وأموالهم.
بهذه المحبة وبهذه الأخوة تقوى العزائم، وتعلو الهمم، وتنشط الإرادة المستعدة لتوحيد الصفوف في سبيل إعادة مجدنا الأول وعزنا السالف.
ولنا في قصة يونس عليه السلام الذي ابتلعه الحوت في ظلمات البحر خير عبرة وعظة، فحين انقطعت به الآمال، وعُدمت وسائل النجاة، لم يجد إلا الاعتصام بحبل الله ﷻ منجاة له، ومخرجاً لما به، ﴿فنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الأنبياء: 87، فكانت النتيجة ﴿فاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ الأنبياء: 88، فأخرجه الله ﷻ من هذه الأمواج المتلاطمة من الابتلاءات، وأرجعه إلى قومه ليجتمع به الشمل، وتتوحد به الفرقة، وينتشر به الإيمان.
نسأل الله ﷻ أن يوحد صف أمتنا وأن يجمع كلمتها على كتابه وسنة نبيه لتستعيد سالف مجدها وتعود إلى مكانتها الرائدة بين الأمم، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
والحمد لله ربّ العالمين..